الهجرة  3 د أفارقة القدس: الغربة والغربة المضادة

مجموعة مؤلفة من حوالي ٤٠ رجلاً أسود، في افتتاح مركز اجتماعي في القدس سنة ١٩٩٦. ©خاص

في منتصف السبعينات ولدْت في مدينة القدس لعائلة من سبعة أفراد كنت ثامنهم. أبي "أفريقي" قدم من مدينة ماسينا في تشاد، وأمي "بيضاء" فلسطينية من مدينة أريحا في غور الأردن. كبرت وترعرعت في الحي الأفريقي كطفل "مُولّد"، هذا المُصطلح الذي تعارف أفراد الجيل الأول للمهاجرين الأفارقة المقدسيين على إطلاقه علينا، نحنُ الأطفال المولودون نتاج زواج مختلط "أفريقي- فلسطيني".

يجب أن يُقاوم الشر بقوة الخير والحب، عندما يدمر الحبُ الشر، يقتله إلى الأبد. أما القوة الوحشية فلا تستطيع أن تدفن الشر إلا بصورة مؤقتة، لأن الشر بذرة عنيدة، حالما تدفن تنمو في السر، وتظهر مرة أخرى وهي أكثر بشاعة.

الحكيم الفولاني باندياقرا، شيرنو بكار، في نصيحة لتلميذه آمادو همباتي با

 


صورة بالأبيض والأسود لرجل يقف على يمين أحد المداخل يحمل لافتة كتب عليها "اجتماع المؤتمر التبشيري الدولي" سنة ١٩٢٨في فلسطين. حارس عند مستشفى أوجوستا فيكتوريا عام ١٩٢٨، فلسطين | ©مكتبة الكونجرس الأفارقة المقدسيون أو التكارنة، كما يُعرّفهم المؤرخ الفلسطيني عارف العارف [١٨٩٢-١٩٧٣]، في كتابه المفصل في تاريخ القدس (١٩٦١)، عبارة عن "أسرة كبيرة من أسر بيت المقدس، وفدوا إليها من دارفور وملحقاتها، وذُكر بطنٌ أصله من تكريت، يلتحق بـ"زوبع" إحدى بطون "شمر"، وكانت الحكومة تستخدمهم في شؤون الشرطة، وعهدت إليهم بحراسة المدارس التي كانت تقوم في الدور والمنازل والأروقة حول الحرم [...]، أنهم سود اللون، طوال القامة، أقوياء البنية". في حين، يعرفهم الباحث الفلسطيني من جذور أفريقية، حسني شاهين، في نشرة بعنوان الأفارقة المسلمون في بيت المقدس، الصادرة عن دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس (١٩٨٤)، "بأنهم الأفارقة المسلمون المنحدرون من عدة بلدان أفريقية منها: نيجيريا، تشاد، السودان الفرنسية- مالي حاليًا-، والسنغال. وأنهم كذلك، مجموعة تنحدر من عدة قبائل أفريقية عربية، تتضمن كل من: قبائل الهوسا، السلامات، البرقو، الزغاوة، البرنو، القانمبو، والبلالة".
 
في هذا المقال، أحاول أن ألقي الضوء على إشكالية فهم وقياس المكانة الثقافية للأفريقي الأسود، وارتباطها بالاختلاف القائم على لون البشرة، والربط بينه وبين الوظيفة، والحيز السكني، وعلاقة كل ذلك بالغربة والغربة المضادة "الزمكانية" لدى الأفارقة المقدسيين.
 
صورة للمركز الاجتماعي في القدس سنة ٢٠١٣.  تظهر في الصورة أرض حجرية، عدة طاولات ومساند على الأرض معدة للجلوس، وعدة أعمدة في الغرفة. المركز الاجتماعي في القدس عام ٢٠١٣ | ©خاص دعونا في البداية نطّلع على تعريف و معنى كلمة أسَود في معجم المعاني الجامع؛ وهي تشير من جانب إلى لون البشرة، ومن جانب آخر إلى المكان الذين ينحدرون منه "رجال أفريقيا سود البشرة". التعريف الثاني يتقاطع نوعًا ما مع التعريف الذي قدمه عارف العارف، أي أنهم من "دارفور وملحقاتها"، من إطار جغرافي له سمات ثقافية ودينية محددة، وهو ما سينقلنا إلى الحديث عن تأثير وعلاقة ذاك التحديد الجغرافي- الثقافي في تكوين الفصل في الذهنية الثقافية الفلسطينية بين صورة الأفريقي الأسود الحُر والمختطف "العبد". وأيضًا، تأثيره ومقياس استدخاله من قبل الأفريقي "التكروري"، على قاعدة الفصل بين مكانته الثقافية ومكانة "الآخر" الأفريقي.
 

مقاييس حيز المكانة الاجتماعية للأفريقي الأسود


قد لا يعلم البعض ربما أن هناك أفارقة سود يعيشون في عدة تجمعات بمختلف المدن والمخيمات داخل فلسطين. والعديد من الباحثين والمؤرخين الفلسطينيين، على سبيل المثال المؤرخة هدى لطفي وعارف العارف والباحث علي قليبو، يعتبرون بأن بداية الاتصال الأفريقي بفلسطين تعود إلى العهدين المملوكي والعثماني.
 
قنطرة كبيرة لسجن وجنود أتراك، صورة بين ١٨٨٩-١٩١٤، فلسطين. مدخل السجن وجنود أتراك، يعود تاريخ الصورة إلى ما بين ١٨٨٩ و١٩١٤، فلسطين | ©مكتبة الكونجرس في دراسة هدى لطفي لسجلات ووثائق الحرم الشريف في القدس المملوكية، يُلاحظ الفصل بين مكانة الأفريقي الأسود "التكروري" الذي هو جزء من الأمة الإسلامية، وبين الأفريقي الأسود غير المسلم والذي يُعتبر بمثابة "العبد". في حين أن المؤرخ عارف العارف والباحث علي قليبو، يعتبران بأن الأفريقي الأسود "التكروري"، قد استخدِم في أعمال الحراسة والخدمة في الأماكن المقدسة في القدس ومكة في العهدين المملوكي والعثماني. ولنتوقف عند مفهوم "خدمة" هنا، كونه ذا طابع إشكالي، حيث يفسرها القلقشندي على أنها لقب من الألقاب السلطانية، في حين يفسرها لسان العرب وفقًا للدور والوظيفة بأنها "كل من يقوم على خدمة غيره من ذكر أو أنثى، غلامًا أو جارية". وهنا يتبادر السؤال، إلى أي درجة أثّر هذا الفصل بين الأفارقة السود على إعادة تشكيل الهوية الثقافية عند الأفريقي الأسود "التكروري"؟

 

إشكالية العلاقة بين لون البشرة، الوظيفة، والحيز السكني

 
في محاولة ربط لون البشرة بالأصل الأفريقي وتأثير ذلك على الهوية الثقافية لدى الأفارقة المقدسيين، أسترجع من ذاكرتي الكلمات التي دأب عمي الحاج جبريل ولد شينه -رحمه الله-ترديدها على مسمعي "إحنا مش عبيد، إحنا أحرار". كلمات عمي كانت بمثابة مؤشر أوليّ لقياس مقدار عملية استدخال المفهوم القائم على الفصل الثقافي، وبالتالي استحداث هوية مغتربة عن بعدها الأفريقي، مع التأكيد على ربط النسب أو الأنساب بأصول لها في الجزيرة العربية "إحنا أصلنا من جده"، كما يقترح ذلك المختار محمد جده في مقابلة أجريت معه سنة ١٩٩٧.

وعند النظر إلى صلة الربط بين الوظيفة ولون البشرة واختلافهم الجسدي: "كونهم سود البشرة، طوال القامة، أقوياء البنية"، كما يقدمها المؤرخ العارف في كتابه كسبب اختيارهم لأعمال الحراسة، يبرز هنا مؤشرٌ ثانٍ يتيح لنا إمكانية قياس علاقة ودور الثلاثي (الوظيفة، اللون، والاختلاف الجسدي) في تحديد المكانة الاجتماعية للأفريقي الأسود التي لا تتعدى النظرة الثقافية النمطية: طبيعة الأعمال التي لا تحتاج إلى مجهود ذهني، وتعتمد على المجهود الجسدي.
 
أما الربط الأخير فهو بالحيز السكني، حيث يعيش أغلب الأفارقة في الحي الأفريقي في القدس، وهو يتكون من مبنيين تاريخيين "الرباط المنصوري" و"الرباط البصيري"، واللذين أنشئا خلال العهد المملوكي في القرن الثاني عشر بالقرب من باب الناظر أحد البوابات المؤدية إلى الحرم القدسي الشريف.

في نهاية العهد العثماني، وتحديدًا ما بين الأعوام ١٨٩٨ و١٩١٤، استخدم الرباطان كحبس (سجن) من قبل السلطات العثمانية، حيث عُرف الأول باسم "حبس الدم" (الرباط البصيري) وخُصص للسجناء العرب المحكوم عليهم بالإعدام، وعُرف الثاني باسم "حبس الرباط" (الرباط المنصوري) وخُصص للسجناء العرب المحكومين بفترات اعتقال مختلفة. بعد سنة ١٩٢٩، تحول الرباطان إلى دور سكن للأفارقة المقدسيين، ومنذ ذاك الوقت بدأ بعض السكان المحليين يطلقون عليهما اسم "حبس العبيد"، تسمية جرى من خلالها الربط بين الوظيفة التاريخية في استخدامه كحبس أثناء الفترة العثمانية، ولون البشرة، على اعتبار أن السود هم العبيد.
 
في حين يحاول البعض في المجتمع المقدسي التخفيف من دلالات عنصرية التسمية، فحسب وجهة نظرهم "اليوتوبية" المبنية على صورة مثالية للمجتمع الفلسطيني، على اعتبار أننا "كلنا واحد، كلنا أخوة، كلنا سواسية"، وأن استخدام وتداول التسمية من قبل البعض لا يعبر إلا عن جهل، ويخلو من أية دلالة عنصرية ثقافية أو مجتمعية تجاه الأفارقة السود، وبالتالي لا وجود لها في المجتمع الفلسطيني، فالكل "عبيد لله" بمعناها الإيماني.

  يوسف قوس (يسار) وفيصل الحسيني، الممثل السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس، يقفان في غرفة جدرانها حجرية، في افتتاح المركز الاجتماعي، القدس ١٩٩٦. ياسر قوس (يسارًا) والأستاذ فيصل الحسيني، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية السباق في القدس، خلال افتتاح المركز الاجتماعي عام ١٩٩٦. | ©خاص وأتساءل هنا، إذا كنا حقًا كذلك، وهو تصور غير واقعي، فكيف لوجهة النظر "اليوتوبية" أن تفسّر أو تبرر لنا استمرار استخدام تسمية "عبيد الديوك" على التجمع السكاني لذوي البشرة السوداء في الجزء الشمالي لمدينة أريحا بالقرب من عين الديوك؟ وكذلك استمرار إطلاق تسمية "حارة العبيد" على بعض الأحياء التي يقطنها أغلبية من ذوي البشرة السوداء في مختلف المدن والبلدات والمخيمات في الداخل المحتل والضفة الغربية؟

وفي النهاية، يمكنني القول، أن إشكاليات اختلاف التعريف، والنظرة النمطية الثلاثية المبنية على الربط بين لون البشرة، الوظيفة، والحيز السكاني، يشكلان سويًا حجر الأساس في قياس وفهم المكانة الاجتماعية للأفريقي الأسود في المجتمع الفلسطيني؛ فمن جانب تعرّض تعريف الأفريقي الأسود إلى عملية استلاب واستبدال ثقافي (التكروري)، ومن جانب آخر حُدّد بإطار زماني (انتشار الإسلام في أفريقيا)، وكأنّ لسان حال المؤرخ العارف يقول بأن قبل ذلك (أسلمة وتعريب المجتمع الأفريقي) لم يكن هنالك حضارة أو حضارات لشعوب أفريقية، إلا أنه وبالرغم من حدة هذا الفصل، حاولت من خلال استعراض الأمثلة السابقة تبيان تلاشي الحدود الثقافية المشتركة بين المجتمع المقدسي والأفريقي التكروري القائمة على اعتبارهم جزءًا من الأمة الإسلامية، وحضور الفصل القائم على دلالات "عرقية"، فالأفريقي الأسود بصرف النظر عن تعريفه "تكروري" أو غير ذلك، هو "العبد الاسود" في المخيلة الثقافية العربية.

من الممكن ان يكون جديرا بالإهتمام

Failed to retrieve recommended articles. Please try again.