مصر

٠٧.٠٦.٢٠١٨

تطوير المدن في مصر  القاهرة العاصمة بين الرؤية والأزمة

Citadel of Saladin, Cairo
Citadel of Saladin, Cairo © CC BY-SA 2.0 via flickr.com

 
رغم تغيير الحكومات بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ لا تزال مصر تكابد مشكلات اجتماعية واقتصادية على أصعدة كثيرة: قطاع السياحة الذي يعاني منذ سنوات، تضخم، إنخفاض قيمة العملة وإلغاء الدعم ، لا يمثل ذلك سوى بعض الأمثلة فقط. في الوقت نفسه تزداد معاناة جودة الحياة في أكثر مدن الدولة والقارة بأكملها من حيث الكثافة السكانية. تصارع المدينة التضخم السكاني المتنامي وعدم التوازن الاجتماعي. يقدم هذا الحوار مع خبيرة التخطيط العمراني فرانسيسكا لاوه تفسيرًا بشأن التطورات الحالية وأهميتها للمجتمع المصري.
 

كيف تطورت مدينة القاهرة في السنوات الآخيرة؟

 
عندما نتحدث عن الفترة التي أعقبت ثورة ٢٠١١ يتبين أنه تعين على القاهرة مواجهة الزيادة السكانية الطبيعية والهروب من القرى منذ عقود بالفعل. وتتراوح نسبة الزيادة السكانية الطبيعية بين ٢٬٥% و ٣%، بينما تنمو في المدن المصرية بنسبة ٤% سنويًا. وتشير إحصاءات الوكالة الألمانية للتعاون الدولي  GIZ بأن عدد سكان مصر يزيد مليون نسمة كل تسعة أشهر من خلال الزيادة السكانية الطبيعية. فالأرقام تشير إلى أن تعداد سكان القاهرة  الكبرى يتراوح بين ١٨ مليون و ٢٠مليون نسمة. وبهذا تندرج القاهرة ضمن ما يُعرف بالمدن الكبرى، أي المُدن التي يزيد عدد سكانها عن ١٠ مليون نسمة. كما أن المدينة كانت تتمتع منذ القدم بقوة جذب مغناطيسية وقد نمت بشكل هائل في السبعينيات والتسعينيات على وجه الخصوص وأصبحت اليوم أكبر مدن الدولة.

أدت هذه الزيادة الهائلة إلى عجز سوق العقارات المعتاد عن استيعاب أعداد السكان المتزايدة. كما ازدادت العشوائيات في هذه السنوات لدرجة أن ٨٠% من المساكن الجديدة في محيط القاهرة الكبرى عشوائية وفقًا لتقديرات الوكالة الألمانية للتعاون الدولي، التي تشير كذلك إلى أن ٩٬٥ مليون نسمة من إجمالي ال ١٨ إلى ٢٠ مليون نسمة القاطنين في القاهرة الكبرى يعيشون في عشوائيات.

إلا أن هناك ديناميكيات أخرى تلعب دورًا في ذلك. من بينها ثلاثة تطورات متوازية على الأقل: أولاً التخطيط الرسمي للتوسع العمراني وتقسيم المدينة الذي تنفذه جهات تخطيط محلية بمشاركة من الوزارة. وهناك نشاط خاص متمثل في التخطيط الجديد لمدن بأكملها – وتتبع مصر سياسة المدن الجديدة من بين أمور أخرى ردًا على هذا التكدس الشديد و الإشكاليات المتفاقمة في المدن القائمة. أما الديناميكية الثانية فتكمن في القطاع الخاص للبناء سواء كان محليًا أو دوليًا، ذلك الذي يشيد مساكن للطبقات ذات الدخل المتوسط والمرتفع. وهنا يجدر ذكر "التجمعات السكنية المغلقة" خارج مدينة القاهرة (مثل مدن السادس من أكتوبر والشروق والقاهرة الجديدة). إذ أن هذا التوجه قائم منذ منتصف عام ٢٠٠٠. كما تتعلق الديناميكية الثالثة بمجموعات من السكان الذين لا يتحملون تكلفة المساكن المعروضة في السوق الرسمي. ويُطلق على قطاع البناء والإسكان غير الرسمي والموازي هذا مُسمى سوق الإسكان العشوائي. المقصود هنا على سبيل المثال تلك الأسر الشابة،  وفي المقام الأول كذلك السكان الذين ينتقلون إلى القاهرة من مناطق ريفية أو ضعيفة البنية. ويجد هؤلاء مساكن في المناطق العشوائية أسهل من مناطق الإسكان الرسمية.

هل ازداد الأمر صعوبة على طبقات السكان الأكثر فقرًا؟

حسنًا، بالنسبة لإيجاد مسكن فالإجابة نعم ولا. إذ أن ميزة القاهرة تتمثل في عدم وجود حدود جغرافية أو طوبوغرافية هائلة بخلاف دلتا النيل والأطراف الصحراوية، أي لا يوجد حدود طبيعية من شأنها إيقاف النمو. وبهذا يتوافر الفراغ.  لذا ومن المنظور المكاني الصرف يسهل  الامتداد نحو الجوار القائم في أطراف المدينة. وهو الأمر الذي يمكن أن يحدث بشكل عشوائي في الديناميكية الثالثة، أي دون التخطيط الرسمي أو إنهاء مساءل حقوق الأرض الرسمية. ومن المنطقي أن تواجهنا هنا مجموعة من الأسئلة، على سبيل المثال بشأن معايير (البناء) والموقع ووسائل الربط والإعاشة والإدارة والموقف القانوني ونوعية الحياة. ويرتبط بذلك أيضًا بالطبع السؤال حول مدى التزام إدارة المدينة، أو المحافظة، الفاعل الرسمي بالمشاركة في تقديم الخدمات لتلك المناطق العشوائية أو حتى الاعتراف بها من الأساس.

هل هناك استراتيجية سياسية وراء تطوير مدينة القاهرة ومن ثم خطة للبنية التحتية بأكملها؟

كان هناك الكثير من الخطط  المختلفة للقاهرة، من بينها خطة "القاهرة ٢٠٥٠" منذ عهد مبارك. تتضمن هذه الخطة إعادة الهيكلة الشاملة لبعض المناطق المركزية والضواحي بالقاهرة. حيث تضمنت الخطة على سبيل المثال رؤية لتخطيط محور كبير للمدينة يؤدي إلى الأهرامات، الأمر الذي كان ليشمل مناطق حيوية في الجيزة ويغيرها تمامًا. وكان سيهدد كذلك مناطق كبيرة من المساكن العشوائية. ويمكن أن نعتبر ثورة ٢٠١١ بمثابة نقطة علامة فارقة. أعتقد أنه من المهم للغاية في التخطيط أن المجتمع المدني قد لعب دورًا أكبر بعد ٢٠١١.  حيث شعرنا تحديدًا في الفترة بين ٢٠١١ و ٢٠١٣ أن هناك جهات رسمية وفاعلين مدنيين ومؤسسات ومنطمات غير حكومية تتعاون معًا. وتُعد وزارة البيئة خير مثال على ذلك. وهناك كذلك في مجال تطوير المدن والعمارة ما يُعرف باسم „Community Architects“، أي معماريون ملتزمون ومخططون وأصحاب أعمال اجتماعية انخرطوا بشكل أكثر قوة في الخطاب وأصبحوا ظاهرين للعيان. إلى جانب ذلك كانت هناك مناطق مجاورة مثل ميت عقبة في الجيزة حاولت جاهدة أن تجد حلولاً بنفسها. وهذا يعني أننا شعرنا في التخطيط بتغير أولي في التوجه.

إلا أن الاضطرابات السياسية التي حدثت في صيف ٢٠١٣ يمكن أن نسميها علامة فارقة جديدة. فبعد أن شهدت الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٣ تعاون متزايد على المستويين الأكاديمي والدولي مما دفع موضوع العشوائيات قدمًا في عمليات المشاركة المجتمعية، جاءت أحداث ٢٠١٣ لتصعب الأمور. بمعنى أن التخطيط بمنأى عن الخطة العامة التي كانت في مرحلة إعادة التوجه بعد، أصبح أكثر صعوبة مرة أخرى.

ثم نشأت وزارة جديدة عام ٢٠١٤: لا سيما وزارة التطوير الحضاري والعشوائيات. لأول مرة كانت هناك وزارة معنية بالعشوائيات على أعلى مستوى. إلا أن هذه الوزارة لم تدم سوى لمدى أربعة عشر شهرًا فقط. ثم اندمجت بعد إعادة هيكلتها عام ٢٠١٥ في وزارة الإسكان.

وظلت من خلال تلك الوزارة هذه النوايا الطموحة كائنة، والمتمثلة في مساعدة العشوائيات كي يتم الاعتراف بها وجذب مزيد من الاهتمام بها. وكانت هناك رغبة حقيقية في تحسين البنى التحتية وظروف الحياة. ومن بين الموضوعات التي طُرحت آنذاك موضوع القمامة و "الزبالين" وتحسين ظروف حياة جامعي القمامة غير الرسميين هولاء وحالتهم الاقتصادية. وكذلك دعم قدرات سكان العشوائيات ومعارفهم وحقوقهم بوجه عام.

وبعد حل الوزارة لم يعد التركيز على العشوائيات والرغبة السياسية في العمل على موضوع العشوائيات واضحًا وظاهرًا كما كان من قبل.

مناطق العشوائيات ليست بالمناطق السكنية المُسجلة، أليس كذلك؟

هناك نقاط مشتركة بين كافة العشوائيات،  لاسيما أن وجود هذه المناطق لا تغطيه بطريقة أو بأخرى قوانين (التخطيط) القائمة. ويجدر أن نذكر نوعين مختلفين في هذا الصدد. المناطق الكائنة على أراض عامة. وتندرج تحتها عملية الاستيطان على الأراض غير المملوكة للسكان. يمكن أن تطابق الأبنية نفسها معايير محددة؛ مثل المباني المشيدة بالحديد المسلح والطوب الأحمر أو الطوب الأسمنتي فضلاً عن كونها متعددة الطوابق. ويمكن أن تكون تلك مناطق ظلت عامة، على سبيل المثال لأغراض صناعية أو أغراض أخرى (مثل المقابر أو محطات تنقية المياة وخلافه) ينطبق هذا مثلاً على المناطق العشوائية المتاخمة لشرقي النيل. ويعني ذلك في الواقع أنه في لحظة الاستيطان لم يكن هناك احتياج لها من جانب المدينة. وهكذا أصبحت الأراضي مشغولة. وفي حالات كثيرة نشأت في هذه المناطق أو القرى، من صعيد مصر على سبيل المثال،  مجتمعات جديدة في القاهرة الكبرى.

يؤدي هذا الشكل العشوائي في الاستيطان إلى أن ترى الإدارة المحلية نفسها غير مسئولة عن رعاية المنطقة وإمدادها على سبيل المثال بالبنى التحتية التقنية مثل الصرف الصحي وتوفير مياه الشرب والتيار الكهربائي وخدمات رفع القمامة وصولاً إلى البنى التحتية الاجتماعية مثل المدارس أو المراكز الصحية.  لذا تعاني المنطقة من  عيوب إدارية وخدمية. وعليه تجد المنطقة في الجوار حلولا غير رسمية أو بالأحرى عشوائية أيضًا بغرض توفير الخدمات. وهنا نجد فاعلين من المجتمع المدني ممن يسهمون في سد ثغرات توفير الخدمات.

كل هذا كان له تأثير مباشر على وضع المرور في القاهرة الذي يتسم بكثافة شديدة وهو ما نشعر به على الفور في القاهرة. هل تُعتبر المدن الجديدة بمثابة الحل لمشاكل المرور؟

يعاني قلب القاهرة حقًا من مشكلة مرور، إلا أن ذلك لا يرجع فقط لأسباب لها علاقة بالأبنية والمكان، بل بسبب طريقة فهم القابلية للتحرك والانتقال وما يمكن عمله لهذا الغرض. إن تخطيط المدن الجديدة يندرج بالطبع ضمن الأفكار الاستراتيجية بغرض خلق نوع من السهولة واليسر بشكل ما فيما هو كائن. إلا أن القاهرة ليس بها شيء سهل.  سواء كان التخطيط أو حتى الأسباب. حتى وإن انتوت محافظة القاهرة بناء المزيد من خطوط مترو الأنفاق أو خطوط المواصلات العامة. فهناك باستمرار تحركات معاكسة في الجوار المحلي ومن ثم تصعب الأمور للغاية في مدينة  مدمجة مثل القاهرة يخترق وسطها نهر يصنع بدوره حدودًا داخلية طبيعية ويفضي بالمرور عبر ثقب إبرة. ربما تتمثل البدائل في الأنفاق أو الكباري، أي بنى تهدف إلى إعادة تنظيم المرور من جديد. في الآونة الأخيرة طورت المدينة أو المحافظة رسالة صديقة للمرور على أساس امتد لعقود. عند التخطيط لسيارات كثيرة يُضاف إليها المزيد والمزيد من السيارات فضلاً عن عدم وجود بنية تحتية أقوى للمواصلات السائرة على قضبان أو ذات الأشكال الأخرى. وهذا جزء من روح هذا العصر وأسس التخطيط التي عرفناها من أوروبا وأمريكا الشمالية. كيف يتم تنظيم مسألة المرور برمتها ومن الذي يتصرف في مواجهة النية بتقليل مرور السيارات والمركبات ذات المحركات؟ هل يمكن  هذا على الإطلاق؟ هل هناك مجموعة حشد وتأييد قوية بدرجة كافية من شأنها أن تعوق تحقق ذلك؟ ينبغي أن يكون هناك إعادة هيكلة شاملة وتامة لنظام المرور بأكمله. والأمر يحتاج إلى ثقافة تنقل وحركة جديدة.
 
Franziska Laue © فرانسيسكا لاوه
فرانسيسكا لاوه منسقة برامج دراسية تقوم بالتدريس في ماستر علوم العمران التكاملي والتصميم
المستدام في جامعة شتوتجارت بالتعاون مع جامعة عين شمس بالقاهرة.
وهي تعمل حاليًا وتجري بحوثًا حول موضوع استراتيجيات ملائمة المناخ في السياق الحضري القاحل. كما أنها عملت في مجال تطوير المدن في أماكن كثيرة من بينها حلب ٢٠٠٥، ٢٠٠٧-٢٠١١   والقاهرة ٢٠١٣