هل يُجبر المرء على التضحية بحقوق والده ليبني مستقبله؟ أم أن رفاهية الاختيار ليست سوى حلم بعيد المنال للبسطاء؟ في قلب منطقة صناعية منعزلة، حيث تحكم قوانين وقيم خاصة، ينسج محمد رشاد عالم "المستعمرة" بكل ما يحمله من تناقضات مثيرة. يكشف رشاد عن التحديات التي واجهته لإخراج هذه الحكاية الفريدة إلى النور، متحدثًا عن الصعوبات التي وقفت في طريق تحويل الفيلم من فكرة إلى واقع ملموس.
ما هو مصدر الإلهام الذي دفعك لبدء مشروع فيلم "المستعمرة"؟
كتبت أول معالجة للفيلم في عام 2019، كنتيجة لعدة مواقف وهواجس وأفكار. أمتلك هوسًا ما بالبيئة الصناعية، أحب مشاهدة الناس وهم يمارسون الحرِف بأيديهم، وأراها مادة جذّابة لم يتم استغلالها بالقدر الكافي في السينما المصرية. كان لدي دومًا صورة عامة جدًا لشخص يعمل داخل بيئة صناعية لكنه لا ينتمي لها. حتى قابلت بالصدفة خلال عام 2018 شخص حكى إن والده كان عامل بناء في شركة ما، حتى مات في حادث عندما سقط من دور مرتفع، فعرضت الشركة على الابن أن يتم توظيفه مكان والده مقابل ألا يحرك دعوى قضائية ضدهم، ليضطر الابن لقبول الاتفاق نظرًا لحاجته إلى وظيفة. لمست في حكايته شعوره بالذنب لأنه يبني مستقبله على حساب حق والده المتوفي.
في الوقت نفسه، بدأت البحث لأتعرف على شباب من منطقة في الإسكندرية تسمي "نجع العرب". جميع هؤلاء الشبان عمال مصانع، يعيشون في تلك المنطقة المنعزلة التي تمتلك طبيعة خاصة، فهي منطقة شعبية لكنها هادئة، يحيطها حيز مائي هو ترعة النوبارية وتضم مصنعين يرتبط بهما حياة أغلب السكان. انطلق المشروع من اندماج كل هذا، وشخصيات الشباب استعنت بها كمصدر إلهام في رسم شخصيات أصدقاء حسام بطل الفيلم.
هل تمكنت من التصوير في هذه المنطقة بالفعل؟
للأسف لا. حاولت التصوير هناك، لكن خلال المعاينات وقعت بعض المشكلات التي جعلتنا نقرر تغيير مكان التصوير. وقع اختياري في النهاية على منطقة أخرى في الإسكندرية هي "الكيلو 21"، وجدتها تحقق كل المتطلبات البصرية التي احتاجها للفيلم. يضاف إليها عنصر آخر هو إنها بالفعل محاطة بأماكن نائية يسكنها بعض الخارجين عن القانون، وهو عنصر مهم في الحكاية.
لكن "نجع العرب" و"الكيلو 21" منطقتان مختلفتان عن "المستعمرة" التي يذكرها عنوان الفيلم.
هناك بالفعل منطقة صناعية ثالثة تُسمى "المستعمرة" على أطراف الإسكندرية، على مسافة قريبة جدًا من "الكيلو 21". وجدت اسمها ملهمًا، فمصدره على الأغلب إنها كانت قديمًا مستعمرة لمرضى الجذام، هدفها عزل المرضى عن العالم تجنبًا لانتشار العدوى. لمست تقاربًا في الفكرة مع عزل البشر ليعيشوا في منطقة صناعية منعزلة يسري فيها نظام قانوني وقيمي داخلي، لذلك اخترت العنوان للمشروع واستمر معه حتى اكتمل الفيلم.
اختيار الممثلين الرئيسيين من أهم اختيارات الفيلم، كيف وصلت لممثليك خاصة وأن كليهما من غير المحترفين؟
أدهم شكر، الذي لعب دور حسام فى الفيلم، كان صديقًا على موقع فيس بوك من فترة، لكن كانت لا تربطنا أي علاقة. ومنذ بداية فكرة الفيلم، كنت أرى وجهه ملائمًا تمامًا لشخصية حسام، بملامحه الواضحة وعظام وجهه البارزة. عندما بدأت تصميم ملف الفيلم للتقدم لجهات الدعم، استأذنته بأن أضع صورته في الملف كمرجع بصري لما يمكن أن يكون عليه شكل بطل الحكاية. لكن عندما بدأنا عملية تجارب الأداء لاختيار الممثلين، لم يحضر في الموعد المحدد. اخترت ممثلين آخرين، ثم اتصلت به وسألته فأبدى رغبته لأقابله وينضم لهما، حتى صرت أعمل مع ثلاثة ممثلين كلهم لدور حسام، وكل واحد منهم يعرف أن هناك مرشحين آخرين للدور. عملنا لمدة شهر من التدريبات حتى قررت أن شعوري الأولى كان صحيحًا وأن أدهم هو الأنسب للدور.
اختيار ممثل دور مارو كان أصعب. اختيار طفل غير مدرب للعب دور درامي أمر معقد جدًا. أطلقنا دعوتين لتجارب الأداء ، وسألنا المعارف، وزرنا دور رعاية. قابلنا أكثر من مئة طفل، حتى رشح لنا أحد الممثلين جاره زياد إسلام لأجده فورًا مناسبًا للدور. وجدته طفل شديد الذكاء وسريع التعلم بشكل ملفت. كان العمل معه ممتعًا.
لماذا استغرقت صناعة الفيلم أكثر من خمس سنوات؟
بسبب التمويل بالأساس. لا يوجد منتجون يتحمسون لاستثمار أموالهم في فيلم كهذا، خصوصًا وإنه فيلم مكلف تحتاج فيه للتصوير داخل مصنع لمدة أسبوعين كاملين، والبديل هو التحرك بين صناديق الدعم والجهات المانحة لاستكمال الميزانية. بالطبع الوقت مفيد على المستوى الإنساني. خمس سنوات فترة زمنية طويلة تتطور فيها شخصيتك ورؤيتك للأمور وتكتسب المزيد من العمق، لكن من جهة أخرى طول الوقت يجعلك تسمع آراء عديدة بعضها يتسبب في تشويش رؤيتك للفيلم. طول فترة الصناعة إيجابية وسلبية معًا، لكني حاليًا أتمنى لو كان من الممكن أن أنجزه الفيلم في فترة أقل من ذلك.
التصوير داخل المصنع مثير للانتباه، خاصة وأننا نشعر بأن شخصية حسام تتبلور من خلال علاقته بالماكينة التي قتلت والده وكيف يتدرب عليها.
كما قلت لدي هذا الهوس بالصناعة، وكان من الضروري أن أعرض تطور علاقة حسام بالماكينة التي سيرتبط بها مصيره. بالمناسبة أغلب من يظهرون في المصنع هم عمال حقيقيين، منهم عمال من نفس المصنع، وعمال آخرين من مصانع أخرى منحناهم بعض تدريبات التمثيل. الغرض كان أن نراهم يتحركون ويتعاملون مع الماكينات بشكل طبيعي مع بعض الأداء التمثيلي الذي دربناهم عليه، وقد قاموا في نفس الوقت بتدريب أدهم على الماكينة، وكأنها دائرة مكتملة يعلم فيها كل طرف الآخر ما ينقصه.
"المستعمرة" أول فيلم عربي يشارك في مسابقة "وجهات نظر" المستحدثة في برليناله. كيف ترى هذه المشاركة؟
لم أكن مدركًا إنها أول مشاركة في مسابقة جديدة حتى نبهتني المونتيرة هبة عثمان بالقيمة التاريخية للاختيار. من البداية كنت أشعر أن برليناله هو المهرجان المناسب لفيلمي، خاصة وأن أفلام مصرية كلاسيكية مفضلة بالنسبة لي شاركته فيه مثل "باب الحديد" و"اسكندرية ليه؟" ليوسف شاهين، و"دعاء الكروان" لهنري بركات. من الجميل أن يتم اختيارك لنفس المهرجان الذي اختار أفلامًا عظيمة كهذه، لكن يبقى السؤال داخلي عمّا إذا كان "المستعمرة" سيعيش في ذاكرة الناس مثل تلك الروائع. آمل أن يكون مصيره مشابهًا.
دعم معهد جوتة محمد رشاد لحضور بريناله
٢٠٢٥ فبراير