٠٣.١١.٢٠١٦

الصحة النفسية في مصر  طريق عمل طويل

A Health Blog - Exercise Plays Vital Role Maintaining Brain Health Photo (detail): © Colourbox.de

إذا ما احتجت يوماً لاستقلال الميكروباص المتجه إلى العباسية فلن تضطر لإيقاف كل مركبة وتسأل السائق فيما إذا كان متجهاً في طريقه إلى هناك؛ بل إن الأمر أسهل من ذلك بكثير. فجميع السائقين الذين يسافرون إلى العباسية يتعارفون على نفس الإشارة: إذ يوجهون اليد إلى أحد جانب الرأس ويقومون بفعل حركات دائرية بواسطة السبابة. من المتعارف لدينا جميعاً أن تلك الدلالة العامة تعني "مجنون". لكن ما علاقة ذلك بالعباسية؟ هنا يوجد أكبر مصح للأمراض النفسية في مصر، لا بل في الشرق الأوسط بأكمله، مستشفى العباسية للصحة النفسية. هكذا يرى المواطن المصري العادي موضوع الصحة النفسية.  

الجدير بالذكر بدايةً هو أن قوانين الصحة النفسية في مصر تم سنها لأول مرة في عام ١٩٤٤، وذلك قبل أغلب الدول الإفريقية والعربية الأخرى. لكن حتى يومنا هذا لم يتم تحديث تلك القوانين. وعليه فإن مصر تتعرض لمشاكل جمّة في مجال الصحة النفسية. إحدى تلك المشاكل هي على سبيل المثال مسألة تمويل خدمات الصحة النفسية، حيث يخصص لذلك فقط ٢ % من إجمالي المبالغ المخصصة للصحة بشكل عام في مصر، ٥٩ % من هذا المبلغ (أي من الإثنين بالمئة) تذهب لتمويل المصحات العامة لعلاج الأمراض النفسية. يقودنا ذلك إلى المشكلة الثانية المتمثلة بتوزيع تلك المصحات على البلد. فيوجد في مصر ١٥ مصح لعلاج الأمراض النفسية وثلاثة من أكبر خمس مصحات منها موجودة في العاصمة وحدها (العباسية والخانكة وهليوبوليس)، وواحدة في حلوان وأخرى في الإسكندرية، أيضاً في مدينتين أخريتين من أكبر مدن مصر. المصحات العشرة الأخرى تتواجد في نواحي ريفية على الأغلب. إن ذلك التوزيع الغير متساوي يدل على أن هناك مناطق ريفية من إجمالي المحافظات الأربع والعشرين لمصر غير مخدمة بشكل كافي بمصحات العلاج النفسي – ليس هذا فقط، بل علاوة على ذلك فإن خدمات العلاج النفسي غير متوفرة على الإطلاق في خمس من تلك المحافظات، أي في مطروح والبحر الأحمر والوادي الجديد وشمال وجنوب سيناء. وبالنظر لعدد الأسرّى المتوفرة في جميع المصحات التي تم ذكرها (والتي تحوز على ٨١ % من إجمالي عدد أسرّى مؤسسات الصحة النفسية) فإن الإحصائيات تشير بأن كل ٠٠٠,١۰۰ شخص يحصلون بشكل متوسط على ١٢.٩ سرير. يعطي ذلك بالتأكيد صورة واقعية عن قدر العبء الذي يقع على عاتق مصحات علاج الأمراض النفسية بسبب نقص وحدات العلاج السريرية في البلديات. إلاّ أن المشاكل بالنسبة لمرضى العيادات هي ولحسن الحظ أقل، وذلك لتوفر ٦٢ مؤسسة عيادية في مصر تعتني بأكثر من ٨٢ % من المرضى الذين يتعرضون لعلاج نفسي.

أحد المصاعب الأخرى في مجال الصحة النفسية في مصر هي الكادر البشري، حيث يتوفر في مؤسسات العلاج النفسي بشكل وسطي ٩٨.٤ عامل لكل ٠٠٠,١۰۰ شخص من الشعب. ومن هؤلاء أطباء وطبيبات أمراض نفسية (١.٤٤ لكل ٠٠٠,١۰۰ شخص)، أطباء من اختصاصات أخرى (٠.٢ لكل ۰٠٠,١۰۰)، ممرضون وممرضات (٢.٦ لكل ٠٠٠,١۰۰)، اختصاصيون علم نفس (۰.١١ لكل ٠٠٠,١۰۰)، عاملون اجتماعيون (۰.٢٧ لكل ٠٠٠,١۰۰)، وعاملون آخرون في مجال الصحة النفسية (۰.۳ لكل ٠٠٠,١۰۰). أغلبية هؤلاء العاملين الذين تم ذكرهم (أي ما يقارب ٧٣ %) يعملون في مصحات علاج الأمراض النفسية، هم لا يستطيعون مجاراة تيار المرضى الكبير المتدفق لأن لكل سرير يتوفر فقط ۰.۰٧ من أطباء الأمراض النفسية و۰.٢٧ ممرض. يوجد رغم ذلك معلومة تبعث السرور: فبخصوص توافر أدوية الأمراض النفسية في مؤسسات العلاج النفسي لا يوجد مشاكل. فقط في مؤسسات العلاج الطبي الأولي هي غير متواجدة على الإطلاق على الرغم من أن الأطباء العاملون هناك يحق لهم وصف مثل هذه الأدوية.

وأيضاً من ناحية العمل التعاوني فمازال أمام الأمانة العامة للصحة النفسية في مصر طريق عمل طويل: في حين أن لدى ٩٧ % من المدارس الابتدائية والثانوية قوى عاملة طبية تعمل نصف دوام أو دوام كامل فإن فقط قرابة ١ % من تلك القوى هي مدربة على أمور الصحة النفسية. أقل من ٢٠ % من تلك المدراس تشارك بنشاطات هدفها دعم الصحة النفسية والحد من الاضطرابات. كذلك أيضاً في مجال العمل والتوظيف لا يوجد أي من القوانين التي تلزم أرباب العمل بتوظيف نسبة معينة من الأشخاص ذوي الاحتياجات العقلية أو النفسية الخاصة، فلا يوجد حماية قانونية من التمييز بخصوص الاضطراب النفسي (على سبيل المثال على شكل رواتب متدنية). أما بالنسبة لأمور الدعم المادي فيمكن القول لحسن الحظ بأن معالجة جميع الاضطرابات العقلية والأدوية الضرورية لذلك يتم تغطيتها من قبل التأمين الاجتماعي. ٣٣ % من الأشخاص الذين يتلقون مساعدات اجتماعية يحصلون على ذلك بسبب إعاقة عقلية ما. أما في قضاء العقوبات فلا يوجد سجناء يخضعون لعلاج سيكولوجي أو علاج طبي نفسي. فقط البعض من رجال الشرطة يحصلون على تدريب دوري على أمور رعاية الصحية النفسية، أما القضاة والمحامون فلا يفعلون ذلك. وأخيراً فإن الشبكة المتواجدة في الوقت الحالي لتوعية الناس بموضوع الصحة العقلية هي غير فاعلة بشكل جيد لأن العلاقات بين قطاع الصحة النفسية وباقي القطاعات الصحية المقاربة له (مثلاً على شكل منظمات غير حكومية تقوم بتنظيم تلك العلاقات) مازالت ضعيفة.

أيضاً فإن الصحة النفسية مهملة في حقل البحث العلمي، فمن أصل جميع الأبحاث الطبية المنشورة في البلد هناك فقط قرابة ٤ % تختص بالصحة النفسية. يتوجب على هنا التنويه بأن جميع البيانات والمعلومات المذكورة في هذا المقال مقتبسة من أحدث  تقرير حول الصحة النفسية في مصر وقد تم تحضيرها من قبل منظمة الصحة العالمية وهي متوفرة على موقعها على الإنترنت:

(World Health Organization, Assessment Instrument for Mental Health Systems, 2006)

كل ما تم ذكره أعلاه يعطينا نظرة في خضم المشاكل الرسمية التي يعاني منها مجال الصحة العقلية في مصر. لكن ماذا حول تلك الغير رسمية منها؟ فهم الأمراض والاضطرابات النفسية من قبل العامة له أشكال كثيرة في مصر. فتنتشر وتنمو حول أسماء مثل "العباسية" و"السراية الصفراء"، اثنتين من مصحات علاج الأعصاب في مصر، أكثر القصص غرابة على الإطلاق والتي تجعل مخيلة الناس تفيض عن حدها المعقول. فيتم اعتبار الناس الغير متوازنين عقلياً على أنهم خطر، ينظر إليهم باحتقار ويتم إهانتهم وفهمهم على أنهم أمثلة حية في المجتمع على غضب الله. هذا ويذهب الكثير من الناس إلى أبعد من ذلك ليعتبرون الأشخاص المريضين نفسياً متلبسون من قبل الشيطان. آخرون يبتعدون أكثر بأفكارهم ويتخلون كلياً عن أفراد عائلاتهم الذين يعانون من اضطراب عقلي بسبب إحساسهم بالعار والخزي. كثيراً ما يُسمع من العاملين في مصحات العلاج النفسي شكاوي بأن عدد كبير من المرضى سوف لن يغادرون المصح أبداً – ليس لأنهم مازالوا يعانون من المرض بل ببساطة لأن العائلة والمجتمع لا يستطيعون تقبلهم ثانيةً. وهكذا يتم الاحتفاظ بهم هنا كما لو كانوا مرض معدي بحد ذاتهم يُراد الحد من انتشاره. من جهة أخرى فإن الكثير من المرضى سرعان ما يبدأون بالنظر إلى المشفى على أنه بيتهم ويتملكهم الخوف الشديد من مغادرته لأنهم يعرفون أن ما ينتظرهم في الخارج هو ليس سوى العزلة والمعاناة. إن حال أولئك المرضى هو جيد بالنسبة للآخرين لأنهم على الأقل يتلقون شكل ما من أشكال العلاج الطبي. فهناك مرضى آخرون ممن يقومون بالتردد مراراً وتكراراً على المعالجين التقليديين والدينيين أولاً وبعد أن يفشلوا من التحرر من الشيطان يقررون إعطاء فرصة للعلم. كشفت أحد دراسات بروفيسور أ. عكاشة بأن ٦٠ % من المرضى العياديين في مشفى الجامعة في القاهرة والذين ينحدرون من الطبقة الفقيرة في المجتمع يقومون بزيارة المعالجين التقليديين أولاً قبل أن يذهبوا إلى الطبيب النفسي.

أسأل نفسي بصراحة حول من يجب اعتباره المريض الفعلي، أذلك الذي يعاني من اضطراب عقلي أم الشخص الذي يقتنع بكل تلك الترهات التقليدية المتخلفة؟ هذا ولا يكون السبب هنا دائماً الحالة المادية، فكثير من الناس المتعلمين والمنعمين مادياً يظهرون حالة مشابهة من اللامبالة وبذلك حالة من التزمت.

إشكالية أخرى تتمثل بوجود مصحات خاصة ومشافي عمومية جنباً إلى جنب. يخطر ببالي خلال كتابة هذا المقال رسم كاريكاتوري كنت قد رأيته في وقت سبق: رجل يدخل مستوصف وجيوب بنطاله الفارغة مقلوبة ومتدلية من الخلف وتقاسيم وجهه يعزوها الحزن الشديد. تجلس في المشفى ممرضة إلى طاولة الاستقبال وفوقها لوحة مكتوب عليها "تكلفة الكشفية ٢٠٠ جنيه مصري". ينظر الرجل إلى اللوحة المعلقة وفوقه دائرة مكتوب فيها ما يجول في خاطره: "لو كان لدي ٢٠٠ جنيه لما أتيت إلى هنا." يكفي ذلك لفهم الوضع. إن الانقسام الاجتماعي لم يترك شيئاً في هذا البلد إلا وطاله. يمكنك طبعاً الحصول على معالجة نفسية جيدة طالما كان بإمكانك دفع التكاليف المترتبة على ذلك. فإما أن تخسر صحتك أو تخسر نقودك. وإذا لم تتحسن فستكون قد خسرت كلا الشيئين. يا خسارة!

يوجد أيضاً أمر آخر لا يمكن غض النظر عنه: حقيقة أن لا أحد يطالب الزبون في الصيدلية بالوصفة الطبية هو بحد ذاته كارثة. لنقول بأنك دخلت أحد الصيدليات واشتريت علبة دواء زانكس، تخرج من هناك وبعد قليل تجدك عائلتك في غرفتك وأنت مفارق الحياة! تصل نسبة حالات الانتحار في القاهرة إلى ٥.٣٨ حالة من أصل كل ١٠٠,۰۰۰ شخص. وهل يمكنك أن تخمن أيضاً بأن أكثر طريقة الانتحار شيوعاً هي تناول جرعات الأدوية الزائدة حيث تشكل ٨٠ % من إجمالي الحالات؟ ليس وحده الحشيش الشيء الذي بإمكانه قتلك. فإذا لم يكن من الممكن توفير الرعاية الصحية النفسية للمواطنين فيجب على الأقل سن قوانين تساهم في تصعيب عملية الإنتحار أوالحد منها.

في نهاية الحديث يصبح من الجلي وجود أزمة حقيقية في مجال الصحة النفسية في مصر تحتم الدوران في دائرة مفرغة. فلكل مشكلة من المشاكل التي تم ذكرها جانبين مختلفين يفترض وجود أحدهما وجود الآخر، أي السياسة الرسمية الشكلية والغير شكلية من جهة والإدراك الاجتماعي من جهة أخرى، وكما لو أن جانب واحد من هاذين الجانبين لا يكفي ليجعل الأمر سيئاً بالشكل الكافي. كلما تم تحسن جانب أصبح الجانب الآخر أكثر سوءً. لكن لا يمكن أن يحصل التقدم المرجو إلا إذا تم التقدم على كلا الصعيدين بنفس الوقت. يبدو الأمر لي شخصياً أشبه بحالة انفصام – لا داعي للاستغراب بأن هذه الأخيرة من أكثر الاضطرابات التي يتم تشخيصها في مصحات العلاج النفسي المصرية.