في قلب قطاع غزة، حيث يخيم الدمار ويخيم انعدام اليقين على الحياة اليومية منذ أكثر من عام، يصوغ الفنانون سرديات الأمل والصمود. تتجاوز أعمالهم الاضطرابات التي تجتاح وطنهم، مجسدةً جوهر الهوية الفلسطينية، في حين تشهد على وقائع الصراع المأساوية.
في أوائل شهر أكتوبر، كان المخرج الفلسطيني سعود مهنا يضع اللمسات الأخيرة على ورشة عمل لتدريب عشرين طفلاً من غزة على إنتاج الأفلام. وسط القصف والنزوح والركام والجوع، نظّم المخرج البالغ من العمر ستين عاماً، بمساعدة المخرج يوسف خطاب، دورة مكثفة استمرت عدة أيام، أنتج المشاركون الصغار على إثرها أربعة أفلام وثائقية قصيرة. كانت الورشة بالنسبة إليهم شكلًا من أشكال المقاومة.يقول مهنا في إحدى المقابلات:
"نحن نعمل جاهدين لجعل هؤلاء الأطفال أوصياءً على الذاكرة الفلسطينية، ولنقل قصصهم التي تحمل همومهم ومعاناتهم وصمودهم عبر هواتفهم المحمولة."
أثمرت الورشة عن أربعة أفلام: "النزوح"، "مطبخ المجتمع"، "الأمل"، "بيتنا". عُرضت في فعالية أُقيمت يوم 20 أكتوبر، حضرها عشرات الأشخاص الذين تجمّعوا تحت مظلة إنزال مساعدات جوية، استخدمت كعنصر جمالي. ووثّقت الأفلام القصيرة وقائع الحرب القاسية من وجهة نظر الأطفال الذين نجوا من ويلاتها لأكثر من عام.
بعد أن أُجبر على النزوح من منزله في شمال خان يونس إلى دير البلح، انضم مهنا إلى عشرات الفنانين في القطاع المحاصر ممن اقتُلعت حياتهم من جذورها بفعل الحرب الانتقامية الإسرائيلية المستمرة منذ 7 أكتوبر من العام الماضي، والتي هجّرت أكثر من 80% من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.*
ورغم الظروف الإنسانية الملتبسة، وجد مهنا طرقاً لتوظيف مهاراته وخبرته الفنية في خدمة شعبه.
ففي يوليو، قاد فريقاً لتنظيم النسخة الثامنة من مهرجان العودة السينمائي الدولي، الذي أُقيم في منطقة المواصي الساحلية القاحلة. على شاشة كبيرة نصبت بين الركام والأنقاض، جلس الحضور على كراسٍ بلاستيكية وصخور، وشاهدوا 91 فيلماً من 31 دولة، في محاولة لربط الغزّيين بمجتمعات الضفة الغربية ومصر والمغرب وأستراليا من خلال فن الصور المتحركة.
وعلى الرغم من الظروف الإنسانية الصعبة، فقد وجد مهنا طرقًا لوضع مهاراته وخبرته الفنية في خدمة شعبه. | © مهنا
"إني أؤمن أن هذا المهرجان هو رسالتي، وجزء أساسي من خدمتي لشعبي وللقضية الفلسطينية."
وأوضح مهنا أن المهرجان والورشة يمثلان وسيلته للصمود، حيث يركزان على قضايا محورية مثل معاناة اللاجئين والنضال المستمر للفلسطينيين تحت الحصار.
فرضت إسرائيل إغلاقاً محكماً على غزة، مانعةً وصول الغذاء والماء والوقود والكهرباء والإمدادات الطبية وغيرها من السلع. ونتيجة لذلك، يموت الناس جوعاً ومرضاً، فيما يتفاقم الوضع الإنساني الكارثي يوماً بعد يوم مع استمرار القصف الشامل.
ويقرّ مهنا بأن تنظيم مثل هذه الفعاليات في ظل هذه الظروف يبدو أمراً شبه عبثي لمن قاربهم لطلب دعمهم. ومع ذلك، فقد أشعلت قوة الفن جذوة روح التضامن داخل المجتمع الفني، حيث التفّ من كان حوله دعماً للقضية يدفعهم فهم جمعي بأنه حتى في أحلك أوقات الحرب يمكن أن يمثل التعبير الفني عن نضالاتهم منارة من الأمل.
ويوضح مهنا: "إن الإنتاج الفني هو شكل من أشكال المقاومة، فهو يثبت روايتنا ويجذب انتباه العالم إلى معاناتنا."
رسم الأمل
وفي الوقت نفسه، يستخدم فنان آخر، وهو أحمد سعدون، وسيلةً مختلفةً لاستحضار الأمل وسط اليأس.وفي خضم الدمار واليأس، إذ أن ابتسامة واحدة على جدار متداعٍ قد تكون شهادة قوية على الصمود، يرسم سعدون وجوهاً مشرقة مبتسمة على أنقاض المباني المهدمة، تاركاً خلفه آثراً من الألوان في مشهد رمادي يكتنفه السواد والدمار.
رغم أنه لم يتجاوز العشرين ربيعًا، فقد عانى سعدون من مصاعب لا يمكن تصورها: فقدان أسرته، وتدمير منزله، والعيش الدائم تحت تهديد الموت. ومع ذلك، فقد اختار أن يقدم وجهه الباسم للعالم، حاملاً رسالة إنسانية تجسد قوة وروح الشعب الفلسطيني.
وفي حين أن رسالته بسيطة، إلا أنها لا تخلو من العمق: وهي مواجهة الحزن الطاغي بتذكير بصري بالفرح.:
"أرفض إدامة البؤس"، يقول وهو يرسم بكل عناية وجه فتاة صغيرة التقاها في مأوى لللاجئين عقب فقدها لوالدها.
"في هذه الظروف القاسية، يحتاج الناس إلى رؤية الجمال والسعادة. ألم يشاهدوا ما يكفي من مشاهد الموت والدمار؟"
يتردد سعدون فلسفته بعمق، فهو يسعى إلى رفع المعنويات التي مزقها الصراع، مستبدلاً الدموع بالابتسامات ولو للحظة وجيزة. هذا، ويؤمن سعدون بأن الفن يمتلك قوة تحويلية، قادرة على بعث الأمل في قلوب أفراد مجتمعه، حتى وهم يتشبثون بالحياة وسط مرارة الألم والفقدان.
ديمومة الكلمة المكتوبة
في الوقت الذي تمزّق فيه الحرب ما تبقى من ملامح الجمال في قطاع غزة، يسعى أدباء مثل الروائي والمخرج مصطفى النبيه إلى توثيق وقائع الحياة اليومية في ظل الحرب، ويستعيد ذكريات الجمال من الماضي.فمن خلال كتاباته وأفلامه، يستكشف النبيه النسيج المعقد للتجارب الإنسانية التي شوهها العنف، لكن أضاءها الصمود. حيث تُعد أعماله بمثابة سجلات تاريخية توثّق عمق معاناة الفلسطينيين، محتفيةً في الآن ذاته بروحهم التي لا تنكسر.
كرّس النبيه نفسه لإنشاء سجل تاريخي يوثق الصراع الدائرحالياً. ومن بين إسهاماته الأدبية كتاب صدر حديثاً عن وزارة الثقافة الفلسطينية بعنوان "وراء الخطوط". ويهدف هذا الكتاب إلى تجسيد حقيقة الحياة وسط الفوضى.
يقول النبيه متأملاً:
"إن كل كلمة وكل صورة تشهد على نضالنا من أجل البقاء."
وإلى جانب زملائه الفنانين الذين ينتجون أفلاماً وثائقية عن تجاربهم المشتركة، يساهم النبيه في بناء سرد غني يُظهر تصميم الفلسطينيين على تجاوز ظروفهم.
هذا، وتعزز مساعيه السينمائية هذه الرسالة، إذ أنتج، من قبل، فيلمين بارزين: "قرابين" — وهو فيلم وثائقي مؤثر مدته أربع دقائق، يقارن بين معاناة الفلسطينيين المعاصرين والتضحيات التاريخية التي قُدمت باسم الإيمان. والفيلم الثاني هو: "فنانو غزة، إلى أين؟" — ويروي هذا الفيلم الرحلات المروعة لثلاثة فنانين خلال الحرب، على أن هذه القصص - فقدان العائلة والنزوح والأحلام المحطمة – لا تسلط الضوء على هشاشة الحياة فحسب، بل أيضاً على الإرادة التي لا تقهر لدى من يرفضون الاستسلام لليأس.
يؤكد النبيه قائلاً:
"نحن صانعو الحياة، ولسنا عبدة ً للموت"، في تعبير يجسد مشاعر العديد من الفنانين في القطاع.
يصور النبيه هذه الحكايات كوثائق إنسانية أساسية تسلط الضوء على صمود الشعب الفلسطيني، يقول موضحاً:
"أوثّق الحرب مع التركيز على حب الفلسطينيين للحياة ورفضهم للموت." ويضيف أن جوهر التعبير الفني الحقيقي يكمن في نقل الصراع ضد القمع، مع الاحتفاء بالحياة في الوقت ذاته.
وعلى الرغم من مواجهة انعدام موارد الإنتاج الفني في غمرة الفوضى المستمرة، فإن هؤلاء الفنانين يرفضون أن تنطفئ شرارة إبداعهم.
وهو يعلق قائلاً: "إن قصصنا لا تتعلق بالبقاء على قيد الحياة فقط، بل نحن نسعى كذلك إلى بث روح الأمل، وتجسيد الصمود، وإعلاء صوت الروح الإنسانية في مواجهة الصعوبات الكأداء."
وإلى كل المبدعين في مجال الفن، إن الفن في غزة لا يقتصر على مجرد التعبير: فهو يغدو شريان حياة ــ نبضاً حيّاً يدعو إلى العدالة والإنسانية، ويتجاوز الحدود ليشعل الأمل في أفئدة كل من يصادفه.
تم نشر هذا المقال بالتعاون مع ايجاب.
* اعتبارًا من 26 أكتوبر 2025، تم نزوح 1.9 مليون شخص أو حوالي 90 بالمائة من إجمالي عدد السكان، وفقًا لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة و تشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا).
٢٠٢٥ نوفمبر