اليمن

٠١.١١.٢٠٢٣

الزراعة المستدامة  3 د صراع الحقول: حين تواجه القهوة القات في جغرافيا اليمن

صراع الحقول: حين تواجه القهوة القات في جغرافيا اليمن  ©Canva

في أراضي اليمن، ثمة صراع مواز يدور بين شجرتي القات والبن. يحاول فيها القات الاستحواذ على الأرض والماء ودواوين اليمن، بينما تكافح القهوة القادمة من جذور التربة والتاريخ هذا التجريف، لتبقى إلى جوار اليمنيين رفيقًا وفيّاً. 

في منتصف النهار، نصعد المنحدرات الفاصلة بين مغربة مناخة وقرية الحطيب، تقابلنا مدرجات البن الممتدة من ناصية الجبال إلى أقدمها. كان ذلك أسلوب الحطيب في استقبالنا. وبخلاف المناطق المجاورة، يُشاهد تلاشى القات من حقول المزارعين، وحضور القهوة بديلًا. القات الذي زحف صوب أخصب المناطق الزراعية في اليمن، ودفعت أرباحه المرتفعة مئات الفلاحيين لإبداله مكان مزروعاتهم لا يحضر هنا. إذ قرر الفلاحون من جديد العودة نحو شجرة البن اليمني، التي ملأت الأرض شهرة بمذاقها الاستثنائي وجودتها. وسط قرية الحطيب بالقرب من المزار الشهير، قابلنا شيخ القرية، رجل سبعيني وجد في البن رسالة. حدثنا عن صحوة الأهالي حين قرروا العودة الجماعية إلى غرس بذور البن ونزع جذور القات من أراضيهم. تكفلت جمعية القرية بمساعدة الفلاحين على هذه الخطوة، قدمت تسهيلات في الإنتاج والتسويق لتجاوز أي تعثر. وفي فترة وجيزة، حصل الأهالي على الأرباح الجيدة، وتزينت مدرجاتهم بعقود البن الأصيلة. 
 
تعد تجربة قرية الحطيب ومنطقة حراز، غرب العاصمة اليمنية صنعاء، ملهمة للعديد من المناطق اليمنية التي تبنت هذا التوجه. في محافظة تعز جنوب اليمن، توجد العديد من المبادرات من أجل استبدال أشجار القات بأشجار البُن، أبرزها جمعية بني سنان التعاونية الزراعية، في عزلة بني حمّاد مديرية المواسط، حيث يعتبر البُن الحمّادي من أجود أنواع البُن اليمني. وتسعى الجمعية لزراعة مليون شجرة في محافظة تعز حتى العام 2025 بالتعاون مع منظمات وجهات داعمة أخرى، وتشمل الخطة زراعة البن في المدارس والمرافق الصحية، وقد كان للجمعية أنشطة في العديد من المهرجانات الداعمة لزراعة البن. 
منظر طبيعي لمزارع القات بالقرب من العاصمة اليمنية صنعاء
منظر طبيعي لمزارع القات بالقرب من العاصمة اليمنية صنعاء | ©Canva

القات: المحتل الأخضر  

في العقود الأخيرة، استولت زراعة القات على مناطق شاسعة في الكثير من الأراضي اليمنية، خصوصًا المرتفعات الشمالية والغربية. تكمن المشكلة في زراعة القات في آثاره الصحية والاقتصادية والاجتماعية على حياة الناس. يعزو الكثير من الخبراء هذا التحول السلبي إلى عدة عوامل منها: شيوع ثقافة تعاطي القات في أوساط الأجيال الجديدة، كما أن دخول القات كمادة مرافقة للمناسبات الاجتماعية من أفراح وأتراح وحل نزاعات وغيرها رفع من معدلات استهلاك هذه الشجرة. ترافق هذا الأمر مع غياب شبه تام لأي سياسات حكومية تحد من هذه الظاهرة. بل أصبح القطاع الحكومي متطبعًا ومتعايشًا مع هذه الثقافة. 
 
ولأن اقتصاد القات يمتلك شبكات امداد متعددة، فإن المزارعين لا يحملون في العادة عبء الذهاب للأسواق لبيع محصولهم، بل يأتي متعهدون من المدن والأسواق لشرائه وهو مازال في الحقول. ليوفروا على المزارعين الجهد والنقل والكثير من المال، كان هذا الأمر دافعًا مهمًا للكثير من المزارعين للتوسع في زراعة هذه الشجرة التي تدر ربحًا ماديًا جيدًا بمجهود تسويقي أقل.  

يعد القات، نبتة مخدّرة، بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية، يمضغها المستهلكون للحصول على تأثير منشّط، تُزرع في اليمن ودول شرق أفريقيا، وتتسرّب إلى العديد من الدول العربية والعالمية بطرق غير شرعية على شكل أوراق خضراء، أو مجففة كالشاي المطحون، ويستخدم المزارعين عدد من ا عدّة سُموم ومُبيدات وأسمدة لتسريع نمو القات. ولا يمنع القانون اليمني زراعة القات وتجارته بل إن قانون الضرائب اليمني رقم "42" الصادر عام 2001 وضع القات ضمن السلع الواجب دفع ضريبة عنها بنسبة 20% وكان مجلس النواب اليمني ناقش قانون يمنع زراعة القات عام 2007، إلا أن معظم أعضاء المجلس يمضغون القات، لذا تم تعطيل القانون. 
أوراق القات - كاتا إدوليس.
القات ( كاتا إدوليس) - يمضغ عادة مثل التبغ، ثم يوضع في الخد ويمضغ بشكل متقطع لإطلاق الدواء الفعال، الذي ينتج تأثيرًا شبيهًا بالمنشطات. | ©Canva

إلى جوار كوارثه الصحية، تكمن خطورة هذا التوسع الهائل للقات، في انعكاساته على المنتجات الزراعية الأخرى، والتي أصبحت جغرافيتها تتقلص يومًا بعد يوم. من بين هذه المحاصيل شجرة البن، التي كانت ومازالت أيقونة الإنتاج الزراعي اليمني. عاظم من تقلص زراعة البن غياب التشجيع الحكومي وارتفاع تكاليف النقل وعدم الحصول على الأرباح التي تتوازى والجهد المبذول في زراعته. ومع الربح الكبير الذي توفره شجرة القات، حل الأخير فرصة بديلة للمزارعين. الأمر الذي ساهم بتلاشي شجرة البن وانحسار زراعتها في السنوات الأخيرة.  

تُصدّر اليمن 4 آلاف طن من البن إلى غالبية دول العالم، بحسب شهادات دول المنشأ التي انضم إليها اليمن عام 2011، تراجع إنتاج اليمناله من البن عام 2019 إلى 18 ألف طن نزولاً من حوالي 22 طن عام 2018، بينما انخفضت المساحة المزروعة بأشجار البن من 35 ألفاً و984 هكتاراً إلى 30 ألفاً و544 هكتاراً. هذا الانخفاض كان دافعاً رئيسياً لإطلاق الكثير من الحملات التوعوية لحماية التراث الزراعي اليمني.  

ثروة البن

بن اليمن يا درر يا كنز فوق الشجر  
من يزرعك ما افتقر ولا ابتلى بالهوانِ 


هذه كلمات من أغنية "الحُب والبُن" شكلت مصدر إلهام للشباب اليمني لتبّي مبادرات لاستعادة زراعة البن كبديل لشجرة "القات"، فعندما يسمع اليمني هذه الأغنية يتحرك فيه الحنين للماضي والرغبة للعودة لزراعته كما كان في الماضي. هذه الأغنية التي يتمتم بها معظم اليمنيين التي كتبها شاعر اليمن الكبير مطهر الإرياني ولحنها وغناها علي بن علي الآنسي قبل عقود، عادت للظهور كمادة فنية مرافقة لهذه المبادرات.  

يتم جني القهوة من شجرة البن، إذ تنمو على شكل حبات صغيرة خضراء، قبل أن تكبر وتتحول إلى اللون الأحمر، ليتم جنيها ثم تجفيفها وتحميصها قبل أن يتم طحنها لتصبح جاهزة للاستخدام. تختلف الروايات حول الموطن الأول لهذه النبتة بين اليمن وأفريقيا، إلا أن كل الروايات تُجمع أن أول من استخدم البُن كمشروب هم اليمنيون، حيث وقد تم سُمي ميناء المخا من الكلمة الإنجليزية للقهوة، ففي أطروحة الماجستير "تجارة البُن اليمني" للباحثة اليمنية أروى الخطابي. 

وأشارت الخطابي أن العثمانيين عندما تمكنوا من طرد البرتغاليين من سواحل البحر الأحمر في عام 1538، بدأوا عهداً جديداً من التجارة، عبر موانئ البحر الأحمر من ميناء المخا، الاسم الذي تحوَّل إلى علامة وماركة تجارية  MOCKA COFFEE، بينما ظهر هذا الاسم للمرة الأولى في اللغة الإنجليزية بعد أربعون عاما من التسمية اليمنية، أي عام 1598، وهو يعني "بُن المخا". وحسب المؤرخ ابن الرازي، فإن أول ذكر للبُن اليمني كان في عام 900، إذ تشير مخطوطات إلى أن علياً بن عمر الشاذلي المتوفي في المخا عام 1418 هو أول من نقل بذور القهوة من جنوب غرب الحبشة إلى اليمن، وأول من احتساها كمشروب. 

ويتم زراعة البن في اليمني العديد من المناطق، ويسمى بتسمية تلك المناطق، كالحمّادي، والفضلي، والبرعي، واليافعي، والريمي، والمطري، والخولاني، الآنسي، والإسماعيلي، والحرازي والصّعفاني وغيرها من المناطق. ويتم إنتاجه طوال أيام السنة، نظرا لتضاريس المتنوعة. وبحسب دراسة نشرتها وكالة "بلومبيرغ" يأتي البُن اليمني في الدرجة الأولى عالميا من حيث الجودة، ويصل سعر الكيلو منه إلى 500 دولار، وسعر الطن إلى نصف مليون دولار أي أن سعر الكيلو من البن اليمني يعادل سعر 10 براميل نفط. كما يأتي البن البرازيلي في المرتبة الثانية بعد البن اليمني، حيث تقوم البرازيل بتصدير 3 ملايين طن من البن. 
حبوب البن اليمني.
تعتبر القهوة اليمنية من أجود أنواع القهوة في العالم. | ©Canva

مبادرات من أجل ردّ الاعتبار 

على وسائل التواصل الاجتماعي ينشط الكثير من اليمنيين لتوعية وتثقيف المجتمع من أجل العودة لزراعة البن وأقاموا العديد من الفعاليات والأنشطة عبر مبادرات شبابية، وبمساعدة من مؤسسات تجارية. وتحت عنوان #أيوة_بن في مارس الماضي، طالب النشطاء مالكي المقاهي اليمنيين في أنحاء العالم بتقديم البن للعملاء بدون مقابل بمناسبة اليوم الوطني للبن. لكن العودة للبن تحمل في باطنها عودة نحو الهوية الوطنية اليمنية، التي تأثرت بالصراع الطويل الذي تعيشه اليمن. ويعتبر الكثير من الناشطين والناشطين الحرص على زراعة البن هو أحد عناصر الهوية التاريخية لليمن. 

ويحيي اليمنيون في 3 مارس من كل عام "عيد موكا" أو اليوم الوطني لتشجيع زراعة البن. وبهذه المناسبة، دشن مكتب الثقافة بتعز مارس الماضي، كرنفالا فنيا وإبداعيا لتذوّق البن وزراعة 10 آلاف شتلة بُن بمشاركة ألمع نجوم الغناء والموسيقا والكوميديا اليمنيين.
 
من جانبها، اعتمدت وزارة الزراعة في صنعاء (غير معترف بها دولياً) 3 مارس كيوم وطني للاحتفال بعيد البن اليمني كما ألزم القرار مكاتب الزراعة والري في مختلف المحافظات بالاحتفال بهذا اليوم، ونظمت وزارة الزراعة فعاليات وأنشطة استمرت من أول مارس وحتى العاشر منه، وذلك احتفاء بيوم البن. 

وعن الحملات الشبابية التي تدعو للعودة لزراعة البن يقول أمين وهو أحد تجار البن ومشارك في: "إن هذا يدفعنا للحرص أكثر على تجارة البُن ونقول إن مستقبل البن زاهر، إلا أن المزارعين يحتاجون للدعم من قبل الجهات الداعمة من أجل عودة البن اليمني للصدارة وبجودة عالية". 

وبمناسبة إعلان حكومة صنعاء ليوم 3 مارس يوم للبن، يضيف أمين: "لقد كان هذا بفضل الشباب والحراك الذي قادوه على وسائل التواصل الاجتماعي، ونأمل أن يكون موعدا سنويا لعرض البن والحصول على المساعدات والتسهيلات للتصدير". 
مزرعة بن تقليدية بالقرب من قرية جبلية في شرق حراز، اليمن.
مزرعة بن تقليدية بالقرب من قرية جبلية في شرق حراز، اليمن. | ©Canva
وتعتبر مجموعة حرّاس البن (مبادرة إلكترونية) أول من دعا بأن يكون 3 مارس يوم أول من دعا لأن يكون 3 مارس 2019 يومًا وطنيًا للبن، وسعى لإنجاحها وتفعيلها. وتفاعلت العديد من المبادرات الشبابية ومؤسسات خاصة على تشجيع زراعة البن في اليمن، من خلال إقامة الأنشطة والفعاليات التي تجمع منتجي وتجار ومزارعي البن والمهتمين والمختصين بهذا المجال. 

ونظّم مجموعة من الشباب مبادرة باسم "غرامك ذهب" مهرجانا للتعريف بالتأريخ العريق للبُن باعتباره "ذهب اليمن"، وقاموا بتوزيع أكواب من القهوة الجاهزة على المارة في الشوارع، وبحسب المنظمين للفعالية، تمكنت المبادرة من اقتلاع 450 ألف شجرة من القات واستبدلتها بشجرة البن في منطقة حراز غرب العاصمة اليمنية صنعاء. 

مع ذلك يواجه المزارعين العديد من التحديات، يقول محمد وهو أحد مزارعي البن: "هناك تغير في المناخ، لم تعُد الأمطار تأتي في وقتها المعلوم، لقد اعتدنا أن نسقي الأشجار من بداية آذار/مارس، لكن هذا لم يحدث الأعوام الأخيرة، وهو ما أدى إلى تراجع كمية المحصول في مزرعتي، كما أن تجار البن يبخسون المزارعين عند عملية الشراء بثمن أقل". 

وعن الحلول المقترحة، يضيف محمد: "أتمنى أن تقوم الحكومة والمنظمات بتسخير الدعم من أجل بناء السدود لنتمكن من سقي أشجار البن في الوقت المحدد لها، وتوفير سلاسل تصدير متعددة من أجل الحصول على السعر المنطقي، كما أن غالبية المزارعين يحتاجون للإرشاد من مهندسين زراعيين حول طرق الزراعية وقطف المحصول وتجفيفه وتخزينه". 
 
رغم سطوة زراعة القات، إلا أن المبادرات المجتمعية للعودة نحو شجرة البن اليمني تعد مؤشر عن وعي متزايد نحو أهمية الحفاظ على البن اليمني وعدم التفريط فيه. كما أن هذه الدعوات تأتي في وقت تشهد اليمن انعكاسات مدمرة لشجرة القات، سواء على المستوى البيئي أو الصحي أو الاقتصادي. فالعودة للبن تحمل أيضًا حلول لكل المشاكل التي انتجها التوسع الهائل في زراعة القات. وفي ظل الحرب التي دمرت مقدرات اليمن، يقف الكثير من اليمنيين إلى جوار قهوتهم، وفي قلوبهم حلم بني اللون بأن تنتصر حبوب قهوة الصباح على أوراق قات المساء.