رمضان في خضم الحرب  3 د مشاهد رمضانية لم تغب عن نازحي غزة رغم أوجاعهم

عائلة في دير البلح بغزة تضع الزينة الرمضانية القليلة التي كانت بحوزتها.
ويحتفل سكان غزة، وأغلبيتهم من المسلمين، بشهر رمضان هذا العام وسط أزمة إنسانية وخيمة حيث أصبح خطر المجاعة وشيكًا وسط القيود المفروضة على الوصول إلى المواد الأساسية. ومع ذلك، لا تزال العائلات النازحة تحاول لإحياء الشهر الفضيل بكل ما تستطيع. ©محمد سليمان

يعاني سكان غزة من أسوأ حرب وأزمة إنسانية منذ عقود، حيث تمزقت أسرهم بسبب الموت والتشريد، وهدمت معظم البنايات بسبب الغارات الإسرائيلية، ووسط ندرة الغذاء وعدم وجود الضروريات التي تؤدي إلى الوفيات بسبب الجوع. وسط كل هذا الرعب، لا يزال الكثيرون يحاولون إنقاذ روح رمضان.

عندما اشترت إيمان صالح (38 عاما) شبكة الزينة الكهربائية الممتدة على جوانب خيمة النزوح الخاصة بها إيذانًا ببدء شهر رمضان، كان ذلك منذ أشهر؛ كانت قد فرت من مدينة غزة إلى مخيم النصيرات؛ وعلمت لتوها بأن بعض أفراد عائلتها الذين بقوا في المدينة قد قُتلوا في إحدى الغارات الجوية الإسرائيلية المتتالية على القطاع. لكن السيدة البالغة من العمر 38 عامًا اشترت الأضواء كبادرة خير، على أمل أن تنتهي الحرب بحلول الشهر الكريم وأن تعود الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى، وأن تزين تلك الأضواء جدران منزلها الذي فارقته ولا تعلم مصيره.
ويحتفل سكان غزة، وأغلبيتهم من المسلمين، بشهر رمضان هذا العام وسط أزمة إنسانية وخيمة حيث أصبح خطر المجاعة وشيكًا وسط القيود المفروضة على الوصول إلى المواد الأساسية. ومع ذلك، لا تزال العائلات النازحة تحاول إحياء الشهر الفضيل بكل ما تستطيع.

ويحتفل سكان غزة، وأغلبيتهم من المسلمين، بشهر رمضان هذا العام وسط أزمة إنسانية وخيمة حيث أصبح خطر المجاعة وشيكًا وسط القيود المفروضة على الوصول إلى المواد الأساسية. ومع ذلك، لا تزال العائلات النازحة تحاول إحياء الشهر الفضيل بكل ما تستطيع. | ©محمد سليمان


لكن الحرب استمرت. وأودت النيران الإسرائيلية بحياة أكثر من 31,800 فلسطيني منذ الهجوم الذي قادته حماس في 7 أكتوبر وخلف حوالي 1,200 قتيلا إسرائيليا، مشعلا حربا انتقامية على القطاع المحاصر بأكمله. ومنذ ذلك الحين، اضطرت إيمان إلى الفرار مرتين أخريين، أولاً من مخيم النصيرات إلى خان يونس، ومرة أخرى إلى خيمة في دير البلح، حيث تعيش الآن مع ابنها الوحيد. تلك الخيمة هي التي زينتها بأضواء وفوانيس بلاستيكية وأقمشة ملونة بمناسبة الشهر الفضيل، رغم جحيم النزوح.

في كل عام، يحافظ المسلمون في جميع أنحاء العالم على تقاليد عمرها قرون، للترحيب بشهر رمضان، عبر تجمعات عائلية وأجواء احتفالية وزينة، مما يجعله شهر الفرح والبهجة للملايين ممن ينتظرون الشهر. أما بالنسبة لسكان غزة الذين يعيشون أسوأ أزمة إنسانية منذ عقود، من تمزق وتشتت أسري بسبب الموت والتشريد، وتدمير جارف لمدينتهم بسبب الغارات الإسرائيلية، ووسط ندرة الغذاء وغياب اللوازم الضرورية وما ينتج عن ذلك من وفيات بسبب الجوع، فإن المشاعر الاحتفالية تلاشت بسبب الحزن والحداد على القتلى، والخوف على سلامة من بقي منهم.

ومع ذلك، لا يزال الكثيرون يحاولون إقتناص بهجة رمضان.

تقول إيمان وهي تمد أسلاك الإضاءة على جوانب خيمتها: "قلبي مثقل. ليس هناك فرح حقيقي فيما أقوم به. ولكن هو ضروري من أجل الصغار." وأضافت، مشيرة إلى ابنها البالغ من العمر 9 سنوات، "لقد عاش يزن ما يكفي في الأشهر الماضية. ولا يوجد سوانا نحن الاثنين فقط. أفعل ما بوسعي لإسعاده قليلاً".
على الرغم من عمليات النزوح المتعددة، حرصت إيمان صالح من مدينة غزة على شراء زينة رمضان باهظة الثمن وتزيين خيمة النزوح الخاصة بها، لإضفاء البهجة على ابنها البالغ من العمر سبع سنوات.

على الرغم من عمليات النزوح المتعددة، حرصت إيمان صالح من مدينة غزة على شراء زينة رمضان باهظة الثمن وتزيين خيمة النزوح الخاصة بها، لإضفاء البهجة على ابنها البالغ من العمر سبع سنوات. | ©محمد سليمان


بالنظر لخيمتها، فجهود إيمان جبارة لتزيين الخيمة في ظل هذه الظروف. لقد تمكنت من تحويل خيمتها المتواضعة إلى مكان مبهج بعناصر زينة جمعتها على مدار أربعة أشهر، وسط بحر من خيام النازحين المكدسة في محيط مستشفى الأقصى في دير البلح.

"لن نتخلى عن الحياة"

قالت إيمان، وهي تسترجع سعيها للعثور على الفوانيس والأضواء القليلة لتزيين خيمتها، إن عددًا من المتاجر في رفح وخان يونس كانوا يبيعون المخزون المتبقي من زينة العام الماضي بأسعار مرتفعة، حال كل البضائع في أسواق غزة.

فتشديد الرقابة الإسرائيلية على البضائع التي تصل إلى القطاع أدى إلى نقص حاد في السلع، بما في ذلك الإمدادات الغذائية والأساسيات، مع تزايد أعداد سكان غزة الذين يموتون جوعا لعدم قدرتهم العثور على الغذاء، أو غير قدرتهم على تحمل تكاليفه.

وهذا ما جعل سعي إيمان إلى خلق الفرح في خيمتها، ولو بشكل سطحي، تحديًا صعبًا.

لم يكن من السهل العثور على هذه الأشياء وسط الحرب. يصل سعر زوج البطاريات الآن إلى 10 شيكل، أي عشرة أضعاف سعره قبل الحرب، ومن الصعب جدًا العثور عليه. وقالت: "إذا كنت أستطيع تحمل تكاليف ذلك لأننا اثنان فقط، فإن معظم العائلات الأخرى لا تستطيع ذلك".
 
على الرغم من عمليات النزوح المتعددة، حرصت إيمان صالح من مدينة غزة على شراء زينة رمضان باهظة الثمن وتزيين خيمة النزوح الخاصة بها، لإضفاء البهجة على ابنها البالغ من العمر سبع سنوات.

على الرغم من عمليات النزوح المتعددة، حرصت إيمان صالح من مدينة غزة على شراء زينة رمضان باهظة الثمن وتزيين خيمة النزوح الخاصة بها، لإضفاء البهجة على ابنها البالغ من العمر سبع سنوات. | ©محمد سليمان


وإلى جانب الفانوس الكبير الذي يتدلى من وسط الخيمة، وشبكات الإنارة المعلقة على الجانب الأيمن منها، فالجدار الأيسر من الخيمة زينته بأوراق وأعلام ملونة، زاهية، بينما علقت إيمان لافتة على مدخل الخيمة تقول "رمضان مبارك".

بصوت شجي، قالت إيمان بحزن بالغ وهي مرتدية ثوباً اشترته خصيصاً لشهر رمضان: "إن المعاناة والبؤس الذي نعيشه لم يسبق له مثيل. لم يكن أحد يظن أننا سنصل إلى هذه القدر من الكارثية والمأساة". ولكن، ها نحن هنا، نحاول جاهدين عدم الاستسلام. فإذا كان القصف الإسرائيلي يملي علينا من يعيش ومن يموت، فنحن نملك معنوياتنا وأرواحنا. ولن نتخلى عن الحياة”.

واختتمت إيمان حديثها قائلة: "يمكنني أن أجلس هنا مع ابني وأتركهم يقتلوننا باليأس والاستسلام، إن لم يكن بصاروخ أو قذيفة. لكنني لن أسمح بحدوث ذلك".

"الناس قيام"

مع نزوح أكثر من 1.7 مليون شخص من أصل 2.3 مليون نسمة من سكان القطاع، فإن المعاناة التي يعيشها سكان غزة جلية في كل شبر من الإقليم المحاصر. لكن وسط كل هذا، هناك ممن يحاولون التقاط أجواء رمضان النابضة بالحياة ولياليه المبهجة.

تتقاطع خيوط من الأعلام واللافتات المثلثة ذات الألوان المتعددة المثبتة في أركان خيام النازحين المتلاصقة، بينما علق البعض فوانيس صغيرة على المداخل، بينما تتحدى عائلات أخرى جميع الأخطار وتجتمع في ظلام الليل، قبل شروق الشمس مباشرة، للالتقاء وتناول وجبة السحور، كما هو المعتاد من مئات السنين.

في رفح، ذلك الجزء من غزة الذي يكتظ الآن بأكثر من 1.4 نازح والذي يعد أحدث هدف للعدوان الإسرائيلي، تطوع ثلاثة شبان لإحياء دور المسحراتي - وهي مهنة عمرها قرون من الزمن يقوم بها رجل يتجول في طرقات معتمة كل ليلة من رمضان، لإيقاظ الناس للسحور وصلاة الفجر مستعينا بصوته ودفه.

في إحدى تمركزات النازحين، يجوب يوسف أبو حميد الممرات وهو يغني كلمات المسحراتي التقليدية "استيقظ أيها النائم وسبح الدائم" "تسحروا فإن في السحور بركة". تطأ قدميه حبال خيام النزوح المتشابكة لكثرة عددها. لكن النازح البالغ من العمر 21 عاماً ابتكر بعض العبارات المقفاة التي ألفها لتعكس ظروف الحرب. "يا نازح تسحر وخليك فالح، وفي رمضان نهزم الأحزان، قوم للسحور الحرب في طريقها للعبور".
 
تطوع الثلاثي يوسف أبو حميد ومعتصم ومحمد لأداء دور المسحراتي، وهو تقليد قديم يقوم فيه الذكور بالتجول في الشوارع قبل الفجر لإيقاظ من يصومون شهر رمضان لتناول وجبات شروق الشمس. يعتقد الشباب الثلاثة أن أقل ما يمكنهم فعله هو إشراك أطفال غزة المنكوبين عندما يطلبون السحور في مخيمات النزوح.

تطوع الثلاثي يوسف أبو حميد ومعتصم ومحمد لأداء دور المسحراتي، وهو تقليد قديم يقوم فيه الذكور بالتجول في الشوارع قبل الفجر لإيقاظ من يصومون شهر رمضان لتناول وجبات شروق الشمس. يعتقد الشباب الثلاثة أن أقل ما يمكنهم فعله هو إشراك أطفال غزة المنكوبين عندما يطلبون السحور في مخيمات النزوح. | ©محمد سليمان


وبين عبارة وأخرى يعود الشاب إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم ببعض العبارات الصوفية الشهيرة التي يطرب إليها النازحون وهم يستمعون إليها ممزوجة بأصوات الطبل والدف التي تعلو وتنخفض حسب الكلمات.

يمسك محمد (22 عاما) فانوسه الكبير في مقدمة الفريق يضيء لهم الطريق المعتمة ويمهد لقدومهم بين الخيام لتشجيع الأطفال والكبار على الخروج والاستمتاع بما يشاهدون ويسمعون، بينما يتبعه معتصم (25 عاما) ضاربا على طبلته أصوات تضيف رونقا لكلمات المداح يوسف الذي يمزج بين صوت الطبلة وصوت الدف الذي يمسكه بيده وبينهما عبارات المديح.

يقول يوسف الذي يقوم بدور المسحراتي في شوارع غزة منذ أربعة سنوات: "هذا العام، لا يتعلق الأمر باستيقاظ الناس. فالناس قيام، لا ينامون على أية حال بسبب التفجيرات والقلق. يتعلق الأمر بكسر نمط الخوف والبؤس من خلال الحفاظ على تقاليدنا الراسخة." وأضاف: “الناس بحاجة إلى هذا”.

يتدخل معتصم في الحوار ليضيف: "إن الفرق بين رمضان الحالي والأخير هو الفرق بين الليل والنهار. في العام الماضي كنا نجوب الطرقات بين المباني والمنازل. اليوم، نحن محاطون بالخيام. العام الماضي كان الناس سعداء. اليوم هم بعيدون كل البعد عن ذلك”.

نشر هذا الموضوع بالتعاون مع إيجاب.