برلينالة | مراجعة الفيلم  2 د فيلم "خرطوم": الحنين إلى الوطن وروح المرح

مشهد من فيلم "الخرطوم" من إخراج أنس سعيد، راوية الحاج، إبراهيم سنوبي، تيمية م أحمد، فيل كوكس
مشهد من فيلم "الخرطوم" من إخراج أنس سعيد، راوية الحاج، إبراهيم سنوبي، تيمية م أحمد، فيل كوكس ©Native Voice Films

ما الذي يجمع موظفًا حكوميًا يعشق تربية الحمام، وبائعة شاي في حي شعبي، وناشطًا سياسيًا، ومسعفًا للمتظاهرين، وطفلين يعملان بجمع الزجاجات الفارغة؟ للوهلة الأولى، لا شيء يربط بينهم. لكن ماذا لو كانوا جميعًا من الخرطوم؟ هنا يكمن السر: حبٌ عميق للوطن وحلمٌ مشترك بالعودة إليه، رغم الفرار منه. هذه الرؤية ينسجها خمسة مخرجين في فيلمهما الوثائقي "خرطوم".

من الآمال إلى الآلام. ربما عاشت أغلب دول الربيع العربي تلك الحالة: الحراك الشعبي، ثم النجاح المتبوع بأحلام عريضة بمستقبل مشرق، ثم واقع صادم يحول الأحلام لكوابيس. لكن ما تعرض له السودان تحديدًا يظل مؤلمًا لأسباب عديدة، لعل أفظعها هو تحول البلاد ساحة حرب أهلية دموية بين فصيلين مسلحين يضيع بينهما حق المدنيين في الأمان والحياة الكريمة.

ثمة عنصر يمنح أزمة السودان خصوصيتها، عنصر يلمسه الفيلم الوثائقي "خرطوم"، الذي عُرض ضمن مسابقة "بانوراما برليناله"، في عرضه الثاني عالميًا بعدما شارك قبل أسبوعين في المسابقة الدولية لمهرجان صندانس السينمائي. عمل جماعي صنعه خمسة مخرجين، قام أربعة منهم: أنس سعيد، وراوية الحاج، وإبراهيم سنوبي، وتيمية أحمد برسم خط درامي لشخصية أو أكثر، بينما قام الخامس فِل كوكس بربط الخيوط في فيلم واحد يمزج حكايات خمس شخصيات سودانية.

العنصر المميز، والذي يكشفه الفيلم ببراعة، هو حميمية العلاقة التي تجمع السودانيين ببلدهم. من البديهي أن كل الناس يحبون أوطانهم، لكن ما تلمسه من "خرطوم"، وربما من أي سوداني تقابله في حياتك، هو ذلك الفخر بالوطن والحنين إليه، حتى لو كان يعرف عيوبه جيدًا ويشكو منها. وللنجاة بأنفسهم، انتهى الأمر بشخصيات الفيلم الخمسة وقد تركوا بلدهم وهربوا إلى أماكن مجاورة سعيًا للأمن والهدوء.
 

مزيج بشري

موظف حكومي يهوي تربية الحمام، وبائعة شاي في حي بسيط، وناشط سياسي ومسعف للمتظاهرين، وطفلان يعملان في جمع وبيع الزجاجات الفارغة. شخصيات تبدو ظاهريًا مختلفة تمامًا عن بعضها البعض، لكن جمعتها الثورة الشعبية، وفرقها الشتات بعد الحرب الأهلية. لكن الأهم هو أن القاسم المشترك بينهم هو تقديسهم لمدينتهم الخرطوم، ورغبتهم في استعادة ذكرياتهم الجميلة فيها.

يقوم مخرجو الفيلم بحوار فني مع الشخصيات: يحفزونهم على إعادة تمثيل ذكرياتهم أمام شاشة خضراء، ثم يعيدون تشكيل تلك المشاهد عبر المؤثرات البصرية، والتي تدور جميعها حول الممارسات اليومية العادية. لا شيء استثنائي في حياة هؤلاء الأشخاص سوى حبهم الجارف للخرطوم وإيمانهم الراسخ بالعودة إليها يومًا ما.

لا يعني ذلك أنهم يعيشون في عزلة شعورية عن مجتمعاتهم الجديدة، في القاهرة، أو نيروبي، أو غيرها من المدن التي استقبلتهم. ما يبرزه الفيلم بين السطور هو قدرتهم على التعايش مع الأوضاع الجديدة، وتكوين صداقات داخل المدن التي نزحوا إليها، دون أن تُقطع حبال التواصل الشعوري مع مدينتهم الأم التي يحمل الفيلم اسمها.

القيمة السردية للمرح

وبينما قد يبدو ملخص الفيلم لأول وهلة مُبشرًا بفيلم وثائقي اعتيادي حول خمسة سودانيين شاركوا في الثورة ثم اضطروا لترك البلاد، تكمن قيمة "خرطوم" في تمكن صناعه من الخروج من حيز مسار الشخصيات المتوقع إلى مساحة أرحب من التجربة والمرح. مرح لا يستهين بالمأساة الإنسانية التي تعرض لها ملايين السودانيين، بل على العكس يؤكد أن تلك الروح الفُكاهية، التي تهزأ بالمصاعب وتتمسك باللحظات العذبة، هي السلاح الرئيسي الذي يستخدمه أهل الخرطوم لربح حربهم مع الموت والنزوح والاكتئاب.

"خرطوم" فيلم مصنوع بنضج وعمق، وبروح مرحة تٌولد الابتسامة من قلب المعاناة. وثائقي إبداعي مهم عن قضية انشغل العالم عنها، فجاء المخرجون الخمسة ليذكروا الجميع بما حدث ويحدث لشعب السودان.

المزيد من برليناله