٠٤.٠٨.٢٠٢٢

طبعة خاصة: فيروس كورونا  5 د كوفيد-19 وأثره الباهظ على الصحة النفسية

الصحة النفسية
الصحة النفسية © Canva

إن البشر كائنات اجتماعية   – وكأننا لم نعلم ذلك من قبل – على أن كوفيد-19 يذكرنا بذلك على نحو مؤلم. فالعزلة، والتباعد الاجتماعي، والامتناع عن التماس البشري، وعدم القدرة على رؤية وجوه الناس يتنافى مع الطبيعة البشرية. ولئن كان من المفهوم أن "الأوقات الاستثنائية تستدعي إجراءات استثنائية"، إلا أنه عندما تصبح هذه الإجراءات جزءًا من الحياة اليومية وبدعم قليل إن وجد، فحينها يصبح من الممكن أن تكلفنا أكتر من مجرد ضبط للنفس؛ عندها يمكن أن تكون الكلفة صحتنا النفسية.

يشكل الوباء حالة نموذجية لما يُدعى "الرضة أو الصدمة الجماعية" أو "صدمة المجموع ". وهي صدمة تصيب مجموعة كاملة من الناس دفعة واحدة سببها حادثة مثيرة للقلق. إننا نتحدث في هذه الحالة عن البشرية برمتها. في 2 نوفمبر 2021، أفادت منظمة الصحة العالمية أن إجمالي الإصابات بلغ أكثر من 588 مليون حالة، توفي منها أكثر من ستة ملايين (اعتبارًا من أغسطس 2022). الأرقام الحقيقية هي أكبر على الأرجح، إذ إن نوعية جمع البيانات تختلف من بلد لآخر. حاليًا، يكاد جميعنا يعرف شخصاً مصاباً أو أصيب بكوفيد-19 (إن لم نكن من أصيب هو نحن)، والعديد من الناس يعرفون أحداً ما توفي من مضاعفات هذه الجائحة. والبعض منهم فقدوا أحباءهم.

على أن الفقدان ليس بالشيء الجديد في حيواتنا، إلا أن ظروف الوباء كانت استثنائية. لقد جرت العادة على أن يضطر الأشخاص الذين عانوا من مضاعفات بسبب كوفيد-19 إلى أن يدخلوا المستشفى في غضون بضعة أيام من إصابتهم وإلى أن يعزلوا في أقسام خاصة، وتمنع عنهم الزيارات. والذين توفوا لم يتمكنوا من تبادل تلويحة الوداع مع عائلاتهم. وكذلك الجنازات. وهي مراسم هامة ليس للموتى بل للأحياء، لم يسمح بها، وحرمت العائلات من التعزية واختتام الحزن اللذين توفرهما هذه المراسم.

هذا، ويثقل العبء النفسي على نحو خاص كاهل الذين جلبوا العدوى إلى منازلهم،إلى أهاليهم وأجدادهم وتماثلوا للشفاء، في حين لم يشف أفراد أسرتهم من كبار السن. وقد يشعرون بالمسؤولية لوفاة أقاربهم. بل إنهم قد يشعرون بالذنب لبقائهم على قيد الحياة، وهي متلازمة معروفة بـ "عقدة الناجي".

باشرت المنظمات غير الحكومية بإنشاء خطوط مساعدة نفسية مجانية لدعم أولئك الذين فقدوا أحباءهم أثناء الوباء. فعلى سبيل المثال، اطلقت منظمة مرسال المصرية غير الحكومية برنامجًا يقدم جلسات علاج مجانية للأشخاص الذين يمرون بأزمات نفسية، سواء كانت لفقد عزيز أو لأسباب أخرى.

كذلك، فقد تعرضت الطواقم الطبية من جراء الوباء لضغط هائل، بدءاً بالمخاطر الكبيرة للإصابة إلى العمل لساعات غير صحية إطلاقاً، إلى رؤية المرضى والزملاء وهم يقضون نحبهم بصورة منتظمة. وفي حين يشاهد أخصائيو الرعاية الصحية حالات الموت في جميع الأوقات، وخاصة في أقسام الطوارىء والعناية المركزة، إلا أن ذلك لا يرقى إلى مستوى الجائحة. على أن العناصر الطبية في البلدان النامية تعمل في ظروف أصعب من ذلك. فهم يعانون من نقص في معدات المشافي واللوازم الطبية. وعليه يجب عليهم أن يدبروا أمرهم بما يمكن أن يتوفر لهم وأن يخاطروا بحياتهم لقاء أجور زهيدة. هذا، وقد أطلقت الأمانة العامة المصرية للصحة النفسية وعلاج الإدمان خطًا ساخنًا توفر من خلاله جلسات إرشاد نفسي للطواقم الطبية.

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية

لا يتوقف تأثير الوباء عند الفقدان والاستنزاف، بل له أيضًا تداعيات اقتصادية واجتماعية. فبحسب منظمة العمل الدولية (ILO)، "طالت الخسارة 8.8 % من ساعات العمل على مستوى العالم" سنة 2020 (بالقياس إلى الربع الرابع من سنة 2019)، أي ما يعادل "255 مليون وظيفة بدوام كامل [....] تأثر على إثرها 114 مليون شخص [....] [ما أدى] إلى انخفاض دخل العمل العالمي بمعدل 8.3% (قبل تضمين إجراءات الدعم)، أي ما يعادل 3.7 تريليون دولار أمريكي أو 4.4% من الناتج الإجمالي المحلي العالمي (GDP). أما بالنسبة لعام 2021، قدرت منظمة العمل الدولية أن ساعات العمل الدولية أقل بنسبة 4.3٪ مما كانت عليه قبل التنظيم ، أي ما يعادل أكثر من 125 مليون وظيفة بدوام كامل. والأهم من ذلك، فهي تحذر من "تفاوت كبير" في التوجهات الرامية لإعادة التوظيف بين الدول المتطورة والنامية: "شهدت أوروبا وآسيا الوسطى أقل خسارة لساعات العمل، بالمقارنة مع المعدلات المسجلة قبل الجائحة (2.5 %). يتبعها آسيا والمحيط الهادىء بنسبة 4.6%. فيما أظهرت أفريقيا، والأمريكيتان والدول العربية انخفاضًا وصل إلى 5.6، 5.4، 6.5 بالمئة على التوالي.".

 تبذل المنظمات غير الحكومية في البلدان العربية قصارى جهدها لمساعدة المتضررين من الجائحة، وخاصة العمال المياومين. ففي الجزائر، تقدم مبادرات Le cœur sur la main و SOS Kabylie للعائلات المتضررة الغذاء أوالملابس أو اللوازم المدرسية إلى أن يتمكنوا من إعالة أنفسهم مجددًا. إلا أن إحصائيات منظمة العمل الدولية فيما يخص البلدان العربية تظهر أن هناك حاجة إلى تدخل حكومي أكبر لاجتياز الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن الجائحة.

وحتى الأشخاص الذين لم يفقدوا أحباءهم أو وظائفهم في الجائحة قد يكونون ضحايا الصدمة الجماعية هذه، حيث أثبت عدم اليقين والذعر مرة أخرى أنهما ينقلان العدوى أكثر من أي ميكروب. هذا، ولعب الإعلام دورًا كبيرًا في خلق هذا الجو المشحون، وخاصةً في بداية الجائحة، عندما بقيت حتى المصادر الموثوقة مترددة بإزاء أمور حاسمة، مثل ارتداء الكمامة من عدمه. وقد أججت هذه الحالة كمّا عظيماً من "الأخبار الكاذبة"، ما أدى إلى نشر الرعب جراء معلومات تفتقد إلى سند علمي.

التأثير النفسي للإغلاق

وعندما توفر أخيرًا دليل تجريبي كافٍ عن القدرة الفتاكة للفيروس وزاد عدد الوفيات أضعافًا مضاعفة (على نحو أسّي)، طبقت البلدان الإغلاق التام واحدة تلو الأخرى. وكان لعمليات الإغلاق وحدها أثر عميق على الصحة النفسية للناس. فلم يكن باستطاعة الأطفال الذهاب إلى المدرسة وبدا على الكثيرين منهم، وخاصة الذين يعانون من مشاكل سلوكية، علامات واضحة من الاضطراب النفسي. وتلخص طبيبة الأطفال وطبيبة العلاج النفسي الطفلي الدكتورة أمل نوفل المأساة كما يلي:

"[بسبب قيود كوفيد] لم يجد الأطفال أمامهم سوى الهواتف النقالة والحواسيب كمصادر ترفيهية. وأمضى الكثير من الأطفال جل يومهم وهم يلعبون (ألعابًا عدائية وقتالية)، ويشاهدون اليوتيوب والكارتون، ما أثر على مهاراتهم الاجتماعية، وجعل منهم أشخاصًا عدائيين جداً تجاه الأطفال الآخرين، وغير راغبين بالعودة إلى المدرسة أو تلقي التدريبات، أوإلى الدراسة أو المشاركة في الأعمال العائلية. فيما تأثر أطفال آخرون بمستويات القلق المرتفعة في المنزل، إن كان لفقدان أحد أفراد العائلة أو أحد المعارف على سبيل المثال بسبب كوفيد. لقد لاحظت ازديادًا في حالات معاناة الأطفال من الوسواس القهري او الاكتئاب."

كذلك أثر الانعزال الاجتماعي بشكل كبير على المراهقين وصغار البالغين. ذلك أن النشاطات بمشاركة الأصدقاء هامة جدًا للنمو الاجتماعي الصحي لهذه الفئة العمرية بقدر ما هي هامة للأطفال. تضيف الدكتورة نوفل:

"كذلك الأمر بالنسبة للمراهقين، لم يجدوا أمامهم سوى مواقع التواصل الاجتماعي والأجهزة الإلكترونية، ما أثر عليهم بشكل كبير وبطرق مختلفة عديدة، من بينها الابتعاد عن عائلاتهم، ذلك أن آراءهم وأفكارهم قد صاغتها بشكل أكثر حسماً التطبيقات الاجتماعية والأصدقاء الافتراضيون. واًصبح الإدمان على الألعاب والإنترنت أكثر شيوعًا، كما هي الحال بالنسبة للاكتئاب والقلق وذلك لقلة الحياة الاجتماعية والخوف من المستقبل."

بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثيرين من الشباب لم يستيطعوا أن يعيشوا – بالكامل او على الإطلاق – بعضًا من الأحداث الفارقة في الحياة بسبب القيود التي فرضتها جائحة كوفيد، كالسنة الأولى لهم في جامعاتهم، والتخرج، وحفلات الزفاف. يقارن تحليل تلوي (meta-analysis) لـ 48 دراسة شملت 204 بلدان نشرتها مجلة لانسيت العلمية في أكتوبر 2021 انتشار الاضطراب الاكتئابي قبل الجائحة وأثناءها. وأظهرت النتائج ازديادًا بنسبة 27.6% في الاكتئاب الحاد و25.6% في حالات الاضطراب الاكتئابي بسبب كوفيد-19. وأظهرت البلدان الأكثر تضررًا من الجائحة أعلى المعدلات، ومن بينها مصر والعراق والمملكة العربية السعودية في الشرق الأوسط. كذلك أظهرت الدراسة أن النساء والشباب كانوا أكثر عرضة للاكتئاب والقلق الناجمين عن الجائحة. وبغض النظر عن العمر، كانت الحالة أثناء الإغلاق مشوبة بالتوتر، وخاصة بالنسبة للأشخاص المستضعفين، أكان توترًا اجتماعيًا -اقتصاديًا أم نفسيًا.

القوانين والحرية المكتسبة حديثًا والتأقلم

في بداية الجائحة سيطر الذعر على الجميع، وطفت غريزة البقاء على قيد الحياة على السطح. وقد تجلى هذا بشكل واضح جداً في محلات السوبر ماركت من بين كل الأمكنة. على أن الناحية الإيجابية لهذا الذعر تكمن في أن الناس أصبحوا أكثر امتثالاً للقوانين. ففي سنة 2020، أبدى الناس رغبة في ارتداء الكمامة واستخدام المطهّر أكثر بكثير من الآن، وهذا يعود ببساطة لأن الوضع كان ما يزال جديدًا وخطراً. في حالات الطوارىء غير المعهودة، نحذو حذوالآخرين، وخاصة من نعتبرهم خبراءً. وهذه ظاهرة اجتماعية تُعرف باسم "التأثير الاجتماعي التثقيفي". ومع ذلك فالآن، وبالرغم من أن الجائحة لم تنته بعد، فإن الأشخاص المتمردين على إجراءات كوفيد، بما فيها اللقاحات، آخذون بالازدياد. وأعداد الناس الذين يرون في هذه الإجراءات تقييداً لحريتهم وليست لحمايتهم هي في ازدياد.

وبفضل عدة عوامل مخففة، كالعمل من المنزل والدروس عبر الإنترنت، وتخفيف الإجراءات، بما فيها إعادة افتتاح المحال غير الأساسية وعودة السفر، تم الوصول إلى درجة من التأقلم مع الوضع، بالرغم من عدم ملاحظتنا لذلك. فالبشر هم سادة التأقلم. والسؤال هو: "هل بإمكاننا التأقلم حقًا مع حدث صادم؟"، الجواب هو: نعم، ممكن. فالتأقلم مع الحوادث الصادمة هو ما يعرف بـ "القدرة على التحمل". وبحسب دراسة مجلة لانسيت العلمية، فقد سببت الجائحة القلق والاكتئاب السريري لملايين البشر. وهؤلاء الأشخاص بحاجة للعلاج في المقام الأول، ذلك أنهم لا يقدرون على الشروع بالتأقلم مع الواقع الجديد إلا عندئذ. والشخص المكتئب لفقدان شريك أو عمل ليس في وضع يمكنه من التأقلم.

والسؤال الحقيقي الآن هو التالي: فرضت الحكومات حالات الإغلاق وجميع هذه الإجراءات الحازمة لمنع انهيار أنظمة الرعاية الصحية. ولكن من سيدفع ثمن هذه الصدمة الجماعية؟ ألن تؤثر في نهاية المطاف على أنظمة الرعاية الصحية عينها؟.
 

من الممكن ان يكون جديرا بالإهتمام

Failed to retrieve recommended articles. Please try again.