لبنان

٢١.٠٣.٢٠٢٣

المستقبل كأفق  4 د أولاً كتراجيديا، ثم كمهزلة: جيل جديد يلج عالم ما بعد الأزمة

أولاً كتراجيديا، ثم كمهزلة: جيل جديد يلج عالم ما بعد الأزمة ©كانفة

ألفت القوة العاملة اللبنانية الناشئة حديثًا نفسها في أتون أزمات شتى منذ البداية. ما بين تأسيس حياة داخل ا لبلد أو السفر إلى الخارج بحثًا عن فرص جديدة. وما بين الانجذاب إلى نفس الدوامة التي قضت على مستقبل أجدادهم، أو بين مواجهة تحديات ومخاطر جديدة من صنع أيديهم. يقدم بشار بزي، (22عامًا)، رؤى استبصارية مثيرة للاهتمام عن الحال التي آل إليها جيله.

قبل نحو من ثلاثين عامًا، شق جيل جديد من العاملين اللبنانيين طريقه إلى عالم جريء وجديد. فالكلاشنكوف والحواجز وملاجئ الحماية من القنابل التي اتسمت بها نشأتهم أفسحت المجال للوعود الوهمية بالسلام النيو ليبرالي. ذلك لأن هذا العالم الجديد الذي وُعدوا به سيعيد أمجاد ما يسمى بـ "العصر الذهبي" اللبناني، ما يتيح المجال لحياة مزدهرة لهم ولأبنائهم. وكان أهاليهم، الذين دخلوا القوة العاملة أثناء ذلك العصر الذهبي المزعوم، قد تلقوا ذات الوعود التي من شأنها تغيير مسار حياتهم. وفي الراهن يلقى أبناؤهم أيضًا ترحيباً يلجهم في عالم متغير جذريًا، ولكن هذه المرة من دون الوعود الآنفة الذكر.

وبحسب سخرية كارل ماركس ذائعة الصيت فإن التاريخ يعيد نفسه في شكلين، في المرة الأولى على صورة تراجيديا وفي المرة الثانية على صورة مهزلة. كان ماركس يتحدث في سياق الثورة الفرنسية، مستندًا إلى تأكيدات هيغل بأن اللحظات والحقائق والأرقام المتشابهة كثيرًا ما تعاود الظهور في التاريخ. لكن بعيدًا عن روبسبيير ونابليون، سيجد مئات الآلاف من المواطنين اللبنانيين أنفسهم معنيين بهذا التصور.

إن جيل "العصر الذهبي" الذي شهد شبابه يقضون نحبهم في تراجيديا القاذفات، والدبابات، ورجال الميليشيات، قد تعرض لإعادة صياغة هزلية، حيث يتحد مدراء البنوك ومكاتب الصرافة وأوليغارشية السوق معاً لتعطيل حيواتهم وتدميرها في القرن الحادي والعشرين. وبانتقالهم من صفوف الانتظار القاتلة أمام نقاط التفتيش إلى صفوف الانتظار أمام البنوك، والتي تتسم بذات التبعات القاتلة على المدى البعيد، فإن تجربة هذا الجيل هي خير شاهد على قانون ماركس. هل هذا يعني أن جيل أبنائهم هو حاليًا في المرحلة التراجيدية الأولى من التاريخ؟ لعله من غير الحكمة سحب هذه المقولة الأحادية لتؤول إلى نظرية للتاريخ شاملة.

ومع ذلك، فالاستعارة لا تزال قائمة. فبعد أن شهد تراجيديا الحرب والتنامي الهزلي للقدرة المالية، يلقى جيل جديد من العاملين اللبنانيين حالياً الترحيب للدخول في لجّة المخاطر. ولكونهم قد وضعوا في الجبهة الأمامية من إعادة إنتاج الاقتصاد، فإن على هؤلاء العاملين الآن مواجهة ما إذا كانوا محكومين بتكرار دورة التاريخ اللامتناهية هذه، أو ما إذا كان بمقدورهم إنجاز مأثرة من مآثر نابليون الشجاعة التي يمكنها كسر العجلة.
لكن كيف يواجه هذ الجيل من الشباب الحامل للشهادات تحديات الدخول في عالم ما بعد الأزمة، وهم يحاولون تأسيس حيواتهم في خضم الفوضى، والتعامل مع مخاوف الجيل التي تواكب حيواتهم ومستقبلهم؟

عمال العالم الجديد

على أن العاملين الذين تحدثت معهم ليسوا في الدرك الأسفل من الاقتصاد اللبناني، بل هم يعومون بين الأمان وعدم الاستقرار فيما يسمى ظاهريًا بالطبقة الوسطى. ولئن طالت الأزمات بتأثيرها كل فرد في البلد، إلا أن ما يجعل هذه الطبقة الوسطى من العمال مثيرة للاهتمام هو موقعها في إعادة تشكيل الاقتصاد اللبناني. إذ في ظل غياب قطاعات الاقتصاد الإنتاجية، فإن قسماً كبيراً من اقتصاد لبنان القائم في معظمه على الاستيراد، يرتكز على الدولارات التي بإمكان القوة العاملة المحلية أن تضخها فيه. وهذا من شأنه أن يضع هذا الجيل الجديد في الصفوف الأولى من الاستثمار في البلد.
إلا أن هذا الاستثمار لا يأتي من دون ثمن. فأرباب العمل اليوم ينظرون إلى لبنان كمصدر ليد عاملة أرخص أجراً، في ظل وجود جيش احتياطي من أفراد مؤهلين أكاديميًا ومهنيًا يبحثون عن وظائف تدفع أجورًا بالدولار. وقد أدى هذا إلى ازدياد في بيئات العمل الهجين والعمل عن بعد، أغلبها بين لبنان وبلدان الخليج العربي.

ميرنا ب. 22 عامًا، وجدت نفسها في منتصف هذه الديناميكية. إذ على الرغم من عملها في لبنان، إلا أنها كانت تعمل حصرًا على مشاريع في الخليج منذ بداية عملها في مجال التسويق. تقول على سبيل التندر والفكاهة "أعرف الكثير عن قانون مجلس التعاون الخليجي بالنسبة لشخص قلما تواجد هناك". لقد أمضت حوالي الشهرين في الخليج هذا العام، وتقول بأن العمل يجري بسلاسة أكبر عندما تكون موجودة هناك. تقول ميرنا: "هنا توجد مسألة فرق التوقيت، ولدينا عملاء في مختلف البلدان، وعلينا إدارة الكثير من الأشياء من بعيد". قدمت الشركة التي تعمل لصالحها عروضًا لتنتقل إلى دبي بشكل دائم، لكن ذلك لم يتحقق بعد.

 تقول ميرنا "ينبغي أن يتضاعف راتبي ثلاث مرات". قبل أن تضيف إنه ينبغي أن يتضاعف ثلاث مرات أصلاً بسبب عبء عملها المضطرب. كريم إ. 23 عامًا، يتشارك وإياها في مشاعر مماثلة. إلا أنه على النقيض من ميرنا، فقد أمضى معظم السنة الفائتة في السفر، ويتساءل ما إذا كان من الأفضل له أن ينقل عمله إلى خارج البلاد بشكل دائم. "إذا كنت أعمل في الخليج، فما الداعي لأن أقبض أجورًا لبنانية" بحسب قوله.

تكاليف المعيشة

علي هـ. 21 عامًا، يتفهم ديناميكيات بيئات العمل عن بعد هذه. لا يزال علي في مرحلة إكمال شهادته في العلوم السياسية. وهو أساسًا يدير محلاً لطهي الطعام بدوام جزئي حتى يتمكن من دفع فواتيره. يقول علي: "معظم زبائني يتقاضون أجورهم بالدولار، ويعملون في المكتب او من المنزل". يقدم علي خدمة أساسية لهؤلاء العمال الشباب، حيث يقوم بطهي وجبات بأسعار معقولة مرتين في الأسبوع. "معظمهم لا يجدون الوقت الكافي بين العمل والتسلية للجلوس والطهي، وبعضهم لا يجيد الطهي مطلقًا" على حد تعبيره.

لا يخطط على للاستمرار في هذا الطريق، إذ يتطلع لولوج مجال العمل شخصيًا ذات يوم. حيث يقول: "هذا العمل هو لدفع الإيجار فحسب، والانتقال لاحقًا إلى منزلي الخاص بي". لكن وبالرغم من الأزمات المتعددة، يبقى سوق العقارات اللبناني صعب المنال كما كان دائمًا. يقول كريم: "أحيانًا أجلس وأفكر في الأسعار، إنها محبطة للغاية. لا أعتقد أنني سأكون قادرًا على شراء منزل يومًا ما".

تشاطره ميرنا نفس المشاعر عندما تتحدث عن مستقبلها الخاص، حيث تقول: "أحب عائلتي، لكنني أحيانًا أفكر بالمغادرة وإذا بي أجد كم هي مستحيلة هذه الفكرة “. وعلى الرغم من أن ميرنا تكسب أكثر من والديها في الوقت الراهن، إلا أنها تعتقد أن فرصاً مختلفة جدًا توفرت لهما عندما كانا في عمرها.

أجيال جديدة


أزال حلول الأزمات في لبنان مصدرًا رئيسيًا للتوظيف في البلد، حيث انعدمت تقريبًا المسارات المهنية الثابتة سابقاً للطبقة الوسطى في القطاع العام والجيش والقوى الأمنية. في الماضي مكّنت هذه الأنواع من المهن الجيل السابق من بقائهم هم وعائلاتهم في البلد، بدون الحاجة إلى الهجرة مثل بعض أقرانهم. في الوقت الراهن، لا يزال هذا الإرث يلعب دورًا رئيسياً في كيفية رسم العاملين الجدد لمسار حيواتهم.

تشير ميرنا إلى أنها بدأت العمل لكي تخفف عبئها المالي على عائلتها، حيث انخفض أجر والدها الموظف الحكومي إلى أدنى مستوى له في ظل الانهيار الاقتصادي. تقول كارين ب. 22 عامًا، إنها شعرت بنفس الدافع لاقتناص فرص الكسب بالدولار خارج محيطها. "يلمّح أهلي في بعض الأحيان إلى ذلك الأمر"، تقول ضاحكةً، "لكنني فعلت هذا رغبةً مني في الاستقلالية".

في كلتا الحالتين، حصل العاملون الجدد على أجور مماثلة، أو حتى أعلى، من تلك التي كان يتقاضاها أهاليهم. تقول كارين: "إن الأمر لغريب بعض الشيء"، لكني كنت، على الأقل، أساهم بعد كل ما قاموا به."

المستقبل

ألفت القوة العاملة اللبنانية الناشئة حديثًا نفسها في أتون أزمات شتى منذ البداية. ما بين تأسيس حياة داخل البلد أو السفر إلى الخارج بحثًا عن فرص جديدة. وما بين الانجذاب إلى نفس الدوامة التي قضت على مستقبل أجدادهم، أو بين مواجهة تحديات ومخاطر جديدة من صنع أيديهم.
منذ لحظة 17 تشرين الأول، وتلاشيها اللاحق، قلما حصل تحشيد فعلي للجماهير. وأثناء فترة الأزمة المطولة التي تلت ذلك، ظهر للعيان بضع مبادرات للقاعدة الشعبية صغيرة إلى متوسطة الحجم.

غالبًا ما تتسم هذه المبادرات عند انطلاقتها بإمكانية راديكالية قوية، محققة أهدافًا محدودة قبل أن تضع نصب أعينها طموحات أكبر. لكن عقب ذلك يسلك القليل منها المسارات نفسها، إذ يعمد الأعضاء إلى الهجرة، أو تشغلهم أمور أخرى، أو يختلفون، وتصل المبادرة إلى نهايتها. تصف لي جنى، ابنة الخمسة والعشرين ربيعًا، كيف أنتجت هذه العملية مبادرة إسكان كانت هي جزءاً منها. تقول جنى: "كانت الأمور تسير بشكل جيد لمدة ستة شهور، حيث قمنا بتسوية بضع حالات، وكنا نتطلع إلى التوسع، وإذ بالأمور تتداعى في غضون شهرين".

وعلى نحو مماثل، وصفت نور س. 27 عامًا، مشاركتها في مبادرة توظيف شبه رسمية، فتقول: "هناك الكثير من المنظمات غير الحكومية تقدم تدريبًا كلاسيكيًا على العمل"، مشيرة بذلك إلى برامج مهارات تقنية، وورشات عمل تعمل في البلد. تضيف: "كنا نهدف إلى تحقيق شيء مختلف، كنا نرغب في الواقع في إيجاد وظائف للناس". تضمنت مبادرتهم، التي لم تطلق عليها أية تسمية قط، تنقيح السير الذاتية للأشخاص، ومشاركة المعلومات المتعلقة بالوظائف والتوظيف ومناقشة بيئات العمل. قالت نور: "كنا تقريبًا مجموعة أصدقاء". وعلى الرغم من ان المبادرة قد توقف نشاطها الآن إلى حد ما، تقول نور، إلا إنها ستعاود نشاطها مرة أخرى على الأرجح بعد فترة: لربما بصورة مختلفة.

يمثل هذا كيف يرى قسم من شباب لبنان العالم في الراهن. في ظل الأمواج المتقلبة من الأزمات، يحاول الكثيرون التمسك بالمدّ الذي سيساعدهم على ركوب العاصفة. في هذا المدّ، تنشأ الروابط ثم تنفصم عراها، وتُطلق محاولات تغيير مسار الأمور ثم تُصبح في طي النسيان. وإذ يلوح فوق رؤوسهم تسونامي التغير المناخي، ناهيك عن الأزمات القائمة، يشعر الكثيرون بأنهم منفصلون عن العالم ومستقبله.
 

اقرأ أكثر

Failed to retrieve recommended articles. Please try again.