ميدالية جوته ٢٠٢٢

كلمة إشادة بمحمد عبلة

من شتيفان فايدنر

سيداتي وسادتي...

لدي مُهمة، تُمثّل شرفًا، ولكنها مُحرجة ومحل شك، ألا وهي ارتكاب ظلم كبير هنا والآن، على مرأى ومسمع من حضراتكم جميعًا. إنه ظلم لذات الشخص، الذي من المُفترض أن أمدحه، والذي أُكِن له في واقع الأمر إعجابًا كبيرًا، محمد عبلة. أملي الوحيد هو ألا تلاحظوا، ولا يلاحظ محمد عبلة، أنكم تشهدون ذلك الظلم. وبالفعل، سأكون قد أديت مهمتي على أكمل وجه، إذا نجحت في ارتكاب هذا الظلم أمام كل الأنظار، وجعله مع ذلك يبدو كما لو كان عكس ذلك، أي خطبة إشادة أوفي فيها محمد عبلة حقه.

ولكن من أكون أنا حتى أجرؤ على الوقوف هنا والتحدث عن محمد عبلة في خمس أو ست دقائق - هذا هو كل الوقت المُتاح لي - وأتصوّر بجدية، أنني قد أشدتُ به بما يكفي؟ تخيلوا لو أن شخصاً وقف، على سبيل المثال في عام ١٩٦٠، أمام بيكاسو، وكان لديه خمس دقائق لتقديم هذا الفنان إلى جمهور يجهله تمامًا. كيف يمكن لهذا الشخص أن يُنصف بيكاسو؟

ولكن، حتى لو كان صحيحًا أن بيكاسو هو الوحيد الذي يمتلك عملاً واسع المجال، ومتنوعًا، وله دور مهم، مثل محمد عبلة، فأنا أظلمه مرة أخرى بهذه المقارنة. لا شيء أكثر عبثية من تكريمه بالقول: إن محمد عبلة هو بيكاسو العرب. المقارنة الوحيدة التي قد تكون مناسبة في هذا الصدد، هي أن نطلق على بيكاسو لقب: محمد عبلة الأوروبيين، وإذا كنت تريد في المستقبل غير البعيد تعريف طلاب الفن في العالم العربي بتاريخ الفن الأوروبي المنسي، فسوف تلجأ تحديداً إلى هذه المقارنة. سيسأل المرء: بيكاسو، من كان هذا؟ سيقول قائل: كان ذلك محمد عبلة الأوروبيين، وسيفهم الجميع المقصود: فنان لا يضاهى.

هل تتوقعون مني أن أشرح إنتاجاً فنياً مثل هذا في خمس إلى ست دقائق، لأوضح لكم كيف تطور؟ حتى مفهوم التطور سيكون خاطئًا، لأنه يعني ضمناً أنه يمكننا التمييز بين ما هو مُكتمل وما هو غير مكتمل؛ لأنه يعني ضمناً أن مثل هذا الإنتاج الفني له جوهر يتطور منه، وهوية لا تتزحزح. إنتاج محمد عبلة محصن ضد مثل هذه المصطلحات العلمية الزائفة. إنه عمل فني يتكوّن بمرور الوقت من خلال حوار مستمر مع الظروف، باحثاً عن إجابات، ويجود بالأصداء، وفي انكساراته بالتحديد، يكون مرآة، وليس مكبر صوت تزأر فيه الأنا المتضخمة وتريد فرض نظرتها للعالم على الجميع.

العمل الذي يرسمه محمد عبلة، ويشكله، ويصيغه، له جودة ملحمية بالنسبة لي. وكثيرًا ما نجد كتابات على صوره. ومع ذلك، فإن لوحاته ليست خطّية، كما تجعلنا تصوراتنا المُسبقة عن الفن العربي نتوقع، وإنما العكس هو الصحيح: إنها أبجدية بصرية، فهي كتابة، وهي رواية، تتكون من الصور نفسها. أقرأ فيها: مصر، وجنوب البحر الأبيض المتوسط، وأفريقيا، والشرق الأوسط، بالإضافة إلى أصداء وأصوات من أوروبا. أقرأ عن المصريين، ووقتهم، وسياساتهم، ومقاومتهم، ومثابرتهم، وحالاتهم المزاجية، ومخاوفهم، وآمالهم. غضبهم وحبهم.

"الشعر ديوان العرب"، هذا قول مأثور من الماضي؛ وترجمته التقريبية هي: الشعر هو أرشيف العرب. مع محمد عبلة أصبح الآن "الفن أرشيف العرب". وبوصفه عالم آثار للحداثة الملوثة، يقوم بصيد القمامة من النيل، وتحويلها إلى منحوتات وأعمال فنية. ومن خلال شهرته كفنان، ينقذ جزر النيل وسكانها الأصليين، الصيادين، عمال العبّارات، العمال البسطاء، من مافيا العقارات، التي تريد تحويلها إلى مانهاتن. في واحة بعيدة خارج القاهرة، أسس متحفًا للرسوم الكاريكاتورية، وخلق مساحة محمية للنقد الجرافيكي، والسخرية، والفكاهة، وهو الشيء الذي يبغضه المتطرفون، وأدعياء الفضيلة من جميع الأطياف، في مصر وكذلك هنا.

في حين أن اللوحات الجدارية الشهيرة للربيع العربي في القاهرة (ألم يكُن مُمكنًا على الأقل تحويلها إلى منطقة جذب سياحي؟) قد تم الآن إزالتها كلها تقريبًا عن طريق منظومة يعتريها رعبٌ شديد من الفن، كما مثيلتها في ألمانيا؛ تظل صور محمد عبلة عن الثورة محفوظة في أيدي متاحف ومعارض فنية وجامعي الأعمال الفنية، الذين يستحقون جميعًا أن نحسدهم على ذلك. ومن ثم، يمكن ملاحظة تعريف جديد للفن في عمله: الفن هو الذي يمكن بطريقة ما أن ينقذ من غضب "الواقع" الزاحف، ما يسمى بـ "المجتمع"، إنه بمثابة سفينة نوح لكل ما هو مختلف وغير مريح، غير قابل للتفسير، متنوع، مكروه، منبوذ، مُقاوِم.

في شكل هذا البعد الأثري، والأرشيفي، والخلاصي، في التزام محمد عبلة ونشاطه، في تدخله ومشاركته، في مُشاطرته الأتراح والأفراح، أرى بريقًا، أرى نورًا في أعماله، لم يعُد متوفرًا في مكان آخر منذ فترة طويلة. لا نستغرب أن يكون النور في مصر أقوى منه هنا في ألمانيا. لكنني لا أقصد النور المادي، بل النور المجازي، نور الروح، ونور الوحي ـ بمعنى أدق الفني ـ.
ألقي نظرة على الساعة؛ فالوقت ينفد من بين يدَي. ألا يُفتَرض أن أقتبس من جوته في النهاية؟ في مقدمة كتابه "نظرية الألوان" نجد المقطع التالي:

لو لم تكن العين في فَلكِ الشمسِ تدور
فكيف كنا سنستطيعُ رؤية النور؟
وإن لم تكن قوة الرب تعيش فينا،
فكيفَ كان ما يأتي منه إلى الفرح يهدينا؟


هذه ليست أبيات لجوته نفسه، وإنما أعاد صياغتها وحسب. ومصدرها، حسب قوله، صوفي قديم. أريد أن أخبركم من هو هذا الصوفي. إنه مصري! ولد في أسيوط على ضفاف النيل عام ٢٠٥ بعد الميلاد، وتلقى تعليمه في الإسكندرية، التي كانت آنذاك ذات طابعٍ يوناني. في إحدى الحملات ذهب إلى بلاد فارس، ثم عمل بعد ذلك في روما، وأصبح مؤسس الأفلاطونية الحديثة. اسمه: أفْلُوطين.

كما يعرف المتخصصون وحدهم اليوم، تمت قراءة أفلوطين وترجمته بشكل مكثف من قِبل الفلاسفة والصوفيين المسلمين، المتصوفة. ومن أشهر هؤلاء الصوفيين الغزالي، الذي توفي عام ٥٠٥ تبعًا للتقويم الهجري، و ١١١١ ميلاديًا، والذي ألّف كتابًا صغيرًا شهيرًا يفسر فيه بطريقة صوفية "تصوف النور" لدى فلوطين وفي القرآن.

بالنسبة للغزالي، لا يقتصر النور على مظهره المادي الفيزيقي. بدلاً من ذلك، فإن النور المحسوس، كما في الأبيات المقتبسة من جوته، ليس سوى استعارة للنور الفِعلي، الحقيقي، أي نور الروح، الذي يربطنا بدوره بالله. أنا مقتنع بأن محمد عبلة يرسم انطلاقًا من هذا المعنى الروحي الميتافيزيقي، النور في نهاية النفق المظلم الطويل، الذي دخلناه منذ سنوات عديدة، دون أن ندرك ذلك.

حصول محمد عبلة على وسام جوته هنا والآن لا يمكن أن يكون سوى إشارة جيدة لنا جميعًا. دعونا نهنئه!