الوصول السريع:

(Alt 1) إذهب مباشرة إلى المحتوى (Alt 2) إذهب مباشرة إلى مستوى التصفح الأساسي

أمل نصر
سيزيف ينتصر

سيزيف ينتصر
©Goethe-Institut

أجد تماساً يفرض نفسه بين الرحلتين : رحلة سيزيف ورحلة عبلة إبن بلقاس الريفي خشن الملامح الذي تجد وجهه شبيها بوجوه من تقابلهم في أزقة مصر وحواريها وأبناء ريفها وصعيدها ، هذا وجه مصري نألفه ، بسيط غير متكلف ، تلقائي ، عرف مبكراً قيمة الاستغناء ودفع ثمن الحرية مقدماً

من أمل نصر

سيزيف ليس فقط عملاً نحتياً لمحمد عبلة يتوسط أحد ميادين مدينة "فالسرودة" الألمانية منذ أنجزه عام ١٩٩٣؛ بل هو أيقونة لحياته بأكملها ، علامة قدرية أراها تتصدر مشواره الفني ؛ فهناك رابط قائم بين أسطورة سيزيف بمحتواها وتعدد تفسيراتها وبين حياة عبلة بزخمها وتحولاتها .
يمتلك نعمة أنه يمشي بين الناس فلا تفرقه عنهم في شيء لذلك كان دائما - وسط  ناسه - من المصريين الحقيقيين الذي كان فنه إرشيفاً بصرياً لهم ، مهموماً بقضاياهم لأنها قضاياه ، يحفظ شوارع مصر من قصر المسافر خان ودرب الطبلاوي والحسين إلى التحرير و وسط البلد والفجالة والقرصاية .

أبراج القاهرة هي مسلاته المعاصرة حتى أضواء ليلها الصناعية يحولها لمسرات ملونة ، يخرج الجمال من ركام العشوائيات ، ينظر كثيراً لوجوه المصريين يحب تجمعاتهم وزحامهم نكاد نسمع في لوحاته ضجيج أصواتهم وقهقهات ضحكاتهم المرتفعة .
الونس بالنيل والشجر والبشر،  أضواء المدينة ، أبراج القاهرة وشوارعها ، النيل والمراكب هي بعض أسماء معارضه الدالة ، لقد رسم مثلما عاش وعاش مثلما رسم وخاض الحياة بجسارة كمغامرة كبرى أو رحلة سيزيفية خارقة ؛ فلعبلة كما لسيزيف أسطورته الذاتية .

 سيزيف : أحد أبطال المثولوجيا الإغريقية الذي استطاع أن يخدع إله الموت ويسرق أسرار زيوس كبير الألهة فعاقبه بأن يرفع صخرة بلا انقطاع إلى قمة الجبل وبمجرد أن يصل تسقط الصخرة مرة أخرى بسبب ثقلها ويعاود تلك الحيرة الأبدية لما لانهاية  ، مجهود كبير يبذله سيزيف ليصعد ثم يرقب صخرته وهي تتدحرج مرة أخرى إلى العالم السفلي الذي يتعين عليه أن يرفعها منه مجدداً.

يستوقفني هنا تحليل ألبير كامو الفيلسوف والروائي الفرنسي لتلك الرحلة في كتابه "أسطورة سيزيف" الذي نشره عام ١٩٤٠، حيث اتخذ سيزيف رمزاً لوضعية الإنسان في الوجود و أن على الإنسان إزاء تلك العبثية التي يلقاها في حياته أن يكون قادراً على الإبتهاج بفعل دحرجة الصخرة أعلى التل و القبول المبهج للنضال ضد الهزيمة. يكتب كامو حول سيزيف قائلاً :

 سيزيف1 © معهد جوته "أثناء العودة يهمني أمر سيزيف . الوجه الذي يشتد قريباً من الصخور هو نفسه صخرة ! إنني أرى ذلك الرجل وهو يعود هابطاً إلى أسفل بخطوة ثقيلة ، ولكنها منتظمة ... تلك الساعة ، كالفضاء المتنفس ، كيقين عذابه ، تلك ساعة إدراكه، وفي كل لحظة من هذه اللحظات التي يغادر فيها الذروة ويهبط تدريجياً نحو مكمن وحوش الألهة ، يكون أسمى من مصيره . يكون أقوى من صخرته ، عذابه هو انتصاره محاولته كل مرة للصعود .. سيزيف يعود نحو الصخرة تتشبث صور الأرض بذاكرته ويتجدد إلحاح نداء السعادة ... يكمن كل سرور سيزيف هنا. إن مصيره يخصه وحده ، وصخرته هي شيئه هو ويعرف أنه سيد أيامه وفي اللحظة التي ينظر فيها إلى الخلف ليستعرض حياته في ذلك الدوران يتأمل في تلك السلسلة من الفعاليات ، التي تصبح مصيره ، الذي يخلقه هو ، والذي يمتزج تحت عين ذاكرته يدرك ، أن الليل لن ينتهي أبداً . والصخرة مازالت تتدحرج ... كل ذرة من هذه الصخرة وكل قطعة من ذلك الجبل الذي يملأه الليل ، بحد ذاتها تؤلف عالماً . والصراع نفسه نحو الأعالي يكفي ليملأ قلب الإنسان . ويجب على المرء أن يتصور سيزيف سعيداً" .

هي ذاتها رحلة عبلة طفلاً ريفياً تعلم في كتاب القرية ، قبل أن يمسك القلم ليكتب  وجد نفسه يرسم على كل مسطح أبيض تقع عليه عيناه يرسم حتى فوق الجدران المحيطة به وفوق ملابسه ، اختار مبكراً الفن وكانت بداية الرحلة السيزيفية الشاقة فما أن يقبض على فكرة الفن والحلم بدراسته ويصل إلى قمة الجبل سرعان ما تتدحرج صخرة حلم دراسة الفن أمام رفض الأب وتشدده حيث يرغمه على تقديم أوراقه للدراسة بالكلية الحربية ، يصعد مرة أخرى متحدياً الأب فيتقدم للدراسة في كلية الفنون الجميلة ، يبدأ رحلة الصعود ويتفوق في جميع السنوات ويقترب من قمة الوصول للحصول على ثمرة التفوق بتعيينه في السلك التدريسي بكلية الفنون إلا أنه يعود للإنحدار مرة أخرى بفعل تعنت بعض أساتذته تجاه ورفضهم لوجوده فيجد نفسه مرة أخرى عند سفح الجبل.
 سيزيف © معهد جوته يرفع صخرته في رحلة صعود جديدة يقيم معرضه الأول في المركز الثقافي الأسباني وينال منحة للدراسة في أسبانيا ثم ما يلبث أن يتركها لأنها لم تحقق ما ينتظره منها ويبدأ رحلة صعود جديدة تلازمت مع شاب يعيش وحيداً ويبحث عن مصدر للرزق ، يكمل الطريق متكئاً على ذراعه ليقدم معرضه الأول في ألمانيا ، يكثر انتاجه ويعلو نجمه ويعود لوطنه أملاً في صعود جديد بحجم كفاح الطريق إلا أنه يصدم بأجواء الصراع ومحاولات المحاصرة والإقصاء .تتكرر رحلات الصعود والهبوط حتى احترفها الفنان وأصبحت سمة لحياته إلا أن أقساها كان عند احتراق مرسمه في الحسين عام ١٩٩٨وفقده لأكثر من خمسمائة عمل من أعماله الفنية  ، تتدحرج صخرته مرة أخرى لكنه يرفعها بعزم جديد ، ينتقل لمرسم جديد في القرصاية ، مرسماً محاط بالمياه دفعاً لهاجس الحريق ، يرسم لوحة كل يوم ليعوض ما خسره حتى يعلو لقمة الجبل مرة أخرى.  

نداء يومي يلبيه عبلة وهو يصنع كل يوم لوحة ويعيد الكرة بلا تعب مثلما أعادها سيزيف في رحلته الأبدية ، لابد أنها بالنسبة لعبلة رحلة مجدية كان الفن فيها دائماً هو ذراعه القوي الذي يحمل به الصخرة ليرفعها لأعلى الجبل لتصبح  كل مغامرة فنية رحلة جديدة الطريق فيها أهم من محطة الوصول ، وفي اعتراكه المتكرر يكمن تجدد الأمل في الحياة ويصبح التدحرج نحو السفح هو بشرى بصعود جديد وليس انهزاماً . لقد اختطف المسرات من العالم وقبض على جمرة الفن ولم يمل من معاودة الرحلة بعدد مرات أيام العمر ... لقد انتصر سيزيف