كيف يستطيع المخرج السينمائي أن يعبر عن رؤيته الفنية دون أن يهمل متعة المشاهدة؟ وما الذي يمكن أن يدفع نجمًا موسيقيًا كبيرًا للمشاركة في فيلم يتناول قصة شاب طموح يحلم باحتراف الغناء، لكن لون بشرته يجعله هدفًا للتمييز والاختلاف؟ في فيلمه الجديد "ضيّ"، الذي يشارك في مسابقة "الجيل" ببرليناله، يكشف المخرج كريم الشناوي عن تجربته الفريدة في سرد قصة إنسانية عميقة ، مع الحفاظ على تشويق المشاهد.
نادرًا ما تختار مسابقة "الجيل" ببريناله أفلامًا عربية، ربما لأن عدد الأفلام العربية الموجهة للأطفال والمراهقين يقترب من الصفر في أغلب السنوات. هذا العام، تحضر السينما المصرية في مسابقة "الجيل" للمرة الأولى عبر فيلم "ضيّ: سيرة أهل الضي"، والذي يرصد رحلة مراهق ألبينو موهوب من بلدته في النوبة بجنوب مصر إلى القاهرة، سعيًا لتحقيق حلمه بالغناء. قابلت مخرج الفيلم كريم الشناوي للحديث عن صناعة الفيلم وما يحمله من اختلاف عن المعتاد في السينما المصرية.بدأت العمل على مشروع "ضيّ" من فترة طويلة، كيف سارت رحلة صناعة الفيلم؟
في 2019 ، قرأت النص الذي كتبه هيثم دبّور وأعجبت به، حيث وجدت فيه شيئًا سحريًا وحلمت بتقديمه، لكنه كان يبدو مشروعًا مستحيل التنفيذ. في عام 2020 ، قدمت مسلسلًا تلفزيونيًا ناجحًا بعنوان "خللي بالك من زيزي"، وعرضت شركة إنتاج عليّ مشروع فيلم أخرجه. اعتذرت لهم عن المشروع وأخبرتهم أن لديّ فيلم أود صناعته، وبالفعل تعاقدوا على النص وبدأنا التحضير، قبل أن تعتذر الممثلة الرئيسية قبل أيام من التصوير ليقرر المنتجون إيقاف المشروع. وقتها، قررت مع المؤلف أننا نريد صناعة هذا الفيلم ولو على نفقتنا الخاصة، فقمنا بتأسيس شركة اشترت حقوق النص من المنتجين، ليؤول لنا مجددًا، وبدأت رحلتنا معه التي كان أهم ما فيها إقناع محمد منير بالمشاركة.
معنى هذا أن منير، أحد أكبر نجوم الموسيقى العربية خلال آخر نصف قرن، كان موجودًا في النص من اللحظة الأولى؟
بالطبع، فهو نوبي الجذور ومن المنطقي أن يكون حلم كل طفل نوبي موهوب أن يصير مثله. منير أعجبه الفيلم، لكنه كان متخوفًا منه. ظللنا نحاول إقناعه حتى اتصل بي في يوم خلال عام 2023 وأعلن استعداده للتصوير، فقمنا فورًا بتمويل يوم التصوير الذي يظهر فيه، وهرعنا لتصويره دون حتى أن يكتمل باقي فريق الممثلين. كنا بالفعل قد استقرينا على لعب بدر للدور الرئيسي منذ عام 2020، لكن ثلاث سنوات فترة ضخمة في عمر النضج تحوّل فيها من طفل إلى مراهق، لذلك قمنا بعد ذلك بتعديل القصة لتتناسب مع مرحلته العمرية. وجود منير جعلنا قادرين لاحقًا على ضم المزيد من المنتجين لدعم التجربة لنستكمل التصوير في صيف 2024. تأمين طفل مصاب بالمهق يجيد التمثيل قد تكون واحدة من أكثر المهمات صعوبة أليس كذلك؟
قمنا بعمل دعوة مفتوحة لأي طفل ألبينو يحب التمثيل، جاءنا حوالي 70 طفل وهو رقم كبير نسبيًا، لكنه لا يقارن بالآلاف الذين يتوافدون عند أي دعوة مفتوحة لتجارب الإداء. أعجبنا بدر محمد، واستثمرنا في تدريبه على التمثيل والغناء. وعندما توقف الفيلم في 2020 ، شعر بالإحباط الشديد، لذلك كان قراري بأن أتمسك بكونه جزءًا من الرحلة، حتى لو اضطررنا لتعديل القصة. الحقيقة أن هذا التعديل أضاف عمقًا للحكاية، فصارت المفارقة أن ضيّ مراهق لكن أمه مصممة أن تعامله كما لو كان طفلًا، بينما معلمته شابة لكن أمها تعاملها كما لو كانت امرأة ناضجة.
"ضي: سيرة أهل الضي" مختلف عن سياق السينما المصرية، سواء الإنتاج التجاري السائد أو الأفلام الفنية والمستقلة، هل كنت واعيًا بهذا الاختلاف؟
كان ذلك قرارًا واعيًا يقوم على ملاحظتي لوجود فجوة ضخمة بين نوعي الأفلام الموجودين في السينما العربية. أغلب صناع الأفلام محصورين بين قرارين: الالتزام بمعايير السوق المحلي بما يعني تنازلات في شكل السرد، أو توجيه البوصلة للمهرجانات الدولية بما يجعل الفيلم أقرب لذوق المبرمج الأوروبي أكثر من المشاهد المصري. كنت أؤمن بأن هناك اختيار ثالث بين الاتجاهين، واختيار الفيلم في مسابقة "الجيل" الملائم تمامًا له قد يكون تأكيدًا لهذه القناعة التي تحركنا منها. شعور سيكتمل مع عرض الفيلم تجاريًا، والذي أراهن أنه سيجد جمهورًا يدعمه رغم التوقعات التي تصب عكس ذلك. أحلم أن يكون الفيلم خطوة أولى في إحداث تغيير وخلق اتجاه جديد من الأفلام المصرية.
من صعوبات الفيلم التصوير في مدن مختلفة من صعيد مصر نادرًا ما تظهر على الشاشة. كيف كانت تلك التجربة؟
صورنا في النوبة، وأسوان، والأقصر، وقوص، وعدة أماكن على الطريق في محافظات أخرى. مصر غنية بالمواقع التي لم تصوّرها السينما كما ينبغي. تعمدت في مشاهد النوبة ألا أعرض الصورة السياحية المعتادة للبيوت الملونة، وحاولت تقديم صورة أكثر واقعية للحياة هناك. ما أريد قوله أن التصوير في المدن البعيدة مرهق ومكلف، وكثير من صناع الأفلام يضطرون للاستغناء عنه لأسباب إنتاجية منطقية. لكننا صممنا على التصوير في المحافظات لأن بدون ذلك لن يكون لدينا فيلم. الفارق بين الصورة والمعمار وحتى الضوء وفصول السنة بين القاهرة والمحافظات عنصر لا غنى عنه في "ضيّ". لا يمكن تصوير فيلم رحلة دون أن تكون هناك رحلة بالفعل.
هل لديك توقعات لاستقبال جمهور برليناله للفيلم؟ خاصة وأن مسابقة "الجيل" يرتادها الكثير من الأطفال والمراهقين؟
ليس لدي توقعات وإنما فضول وآمال، لأنه ببساطة سيكون أول عرض أمام جمهور حقيقي، فعندما عُرض الفيلم في افتتاح مهرجان البحر الأحمر كان الحضور هم ضيوف الافتتاح من المحترفين، لذلك فإن استقبال جمهور برليناله سيخبرنا الكثير عن تفاعل المشاهد العادي مع الفيلم. لكن الأكيد أننا سنستفيد من رد الفعل أيًا كان، فنحن في رحلة تعلم مستمرة لن تنتهي إلا بعرض الفيلم في القاعات المصرية.
شاركت في برنامج برليناله للمواهب عام 2015، واليوم تعود بفيلمك بعد عشر سنوات. ما الذي يقفز في ذهنك عند التفكير في الرحلتين؟
برليناله كان أول مهرجان كبير أحضره في حياتي. وقتها كنت مندهشًا من حجم المهرجان والحضور وسوق الفيلم الأوروبي الذي كان وقتها أكبر من استيعابي. أشعر الآن بالفخر بالطبع وأنا أعود لأعرض فيلمي، وتحديدًا لأني صرت أدرك أن أفضل الخطوات في حياتي المهنية هي تلك التي أخذتها دون حسابات، مدفوعًا بشغفي وإيماني فحسب. وأتمنى أن أعود لبرلين مجددًا بفيلم آخر.
٢٠٢٥ فبراير