باكوم
"فن القتال المدعوم بسلوكيات المحبة"

بيرجيت دامّ وأودو كومپه بالقاهرة.
بيرجيت دامّ وأودو كومپه بالقاهرة. | © معهد جوته القاهرة/ ساندرا ڤولف

عنف ضد الأطفال.عنف ضد النساء.عنف ضد الرجال. يكاد يحتل العنف وما تنجم عنه من تجارب صادمة أجزاء لا تتجزأ من الحياة اليومية في مصر، سواء ضاحياه أو مرتكبيه أو حتى الشهود عليه. يستند منهج العمل بمعهد باكوم للدفاع عن النفس baKum إلى الوقاية من العنف والتغلب على أثار التجارب الناجمة عنه. حوار مع مؤسس معهد باكوم baKum، أودو كومپه والمتدرِّبه بيرجيت دامّ.

 
ينتمي كلاكما لمعهد باكوم baKum للدفاع عن النفس. إلام يشير اختصار baKum؟

أودو كومپه: تعكس كلمة baKum الحروف الأولى من عبارة "bei allem Kampfgeist und Mitgefühl" (بكل ما يتسنى من روح قتالية وتعاطف). ويستند إلى الخلفية المعرفية التي تقضي بأن البشر غالبًا ما يفتقدون إما لهذا أو ذاك. أتمنى للفئة الأول، والتي يكون معظمها عادة من النساء، أن تتحلي بالروح القتالية وتكتسب القدرة على فرض الإرادة وإثبات الذات وقول كلمة "لا". أما الآخرون، فهم بحاجة بالأحرى إلى قوة "التعاطف". أن يتراجع المرء قليلًا من آن لآخر ويضع سلوكه موضع تساؤل ويتفكَّر فيما إن كان قد جرح مشاعر الآخرين بكلماته.  
 
ما وجه الاختلاف بين باكوم baKum وغيرها من أساليب الدفاع عن النفس؟

أودو كومپه: إن معهد باكوم لا يعكس أسلوبًا من أساليب للدفاع عن النفس بالمعنى المفهوم. نستعين بأساليب من فنون الدفاع عن النفس كوحدة دراسية، لأن الجزء الآخر من منهجنا لا يكفي وحده لتحقيق الهدف المنشود. إلا أن جوهر منهج العمل في معهد باكوم يتمحور حول الوقاية من العنف. ترعرعت شخصيًا في ظل بيئة عنيفة. وأسست معهد باكوم عام ۱۹۹٥. بدأت في مزاولة الفنون القتالية، وسرعان ما اكتشفت في شبابي أن هذا وحده لا يكفي. درست علوم التربية والفلسفة. ولكن أكثر ما تعلمته كان من خلال الممارسة العملية على أرض الواقع. حصلت على وظيفتي الأولى في السجن.ومن  خلال عملي مع الضحايا تسنى لي تعلُّم العديد من الأساليب؛ أساليب لا يدرك الضحايا أنفسهم في كثير من الأحيان سبب استخدامهم لها. ثم عملت بعد ذلك مع مرتكبي العنف، وتسنى لي تطبيق العديد من تلك الأساليب معهم. هؤلاء رجال جاءوا إلينا بهدف التخلص من ميول العنف لديهم. إن الدفاع عن النفس يبدأ من وجهة نظري بقول كلمة "لا" بأسلوب مهذب. كنت ألجأ إلى استفزاز الجناة عن عمد ليتسنى لي اختبار الأساليب المختلفة معهم، واكتشفت في هذه الأثناء أن الجناة كثيرًا ما يطلقون سراح ضحاياهم إذا ما تفاعلو معهم بأسلوب مهذب ولطيف. ولذا أسأل نفسي اليوم عن ماهية الدفاع عن النفس؟ نحن بحاجة إلى حماية ذواتنا من كل ما يشكل خطر عليها. قل "لا" بأسلوب مهذب، تحدَّث، افرض إرادتك، وإذا ما لاحظت أن لديك ميل نحو إيذاء الآخرين، ابتعد. ومن هنا يبدأ لدينا تدريب السلامة الوقائي SAFE. من الممكن تخفيف حدة العديد من المواقف، قبل أن تتطور إلى عنف. وينطبق ذلك أيضًا على تقنيات القتال: إيلام الشخص الآخر أفضل من إيذائه، وإيذاؤه أفضل من قتله. فكل هذا يحد من وجهة نظري من تصاعد التوتر ويخفف من حدة الموقف. إنه فن القتال المدعوم بسلوكيات المحبة.  

علاوة على ذلك، يوفر تدريب السلامة الوقائي SAFE استراتيجيات للتعامل في تلك المواقف التي لا يمكن تجنب العنف فيها، كما هو الحال هنا في مصر. إن كافة من التقين بهن من النساء شهدن في حياتهن تجارب من عنف. كيف يمكن للمرء أن يتعامل مع ذلك؟  كيف أتعامل مع مثل تلك التجارب الصادمة؟ ماذا يمكنني أن أفعل حتى لا تزداد التجارب الصعبة صعوبة، وماذا أفعل للتخفيف من صعوبتها في مرحلة ما بعد الصدمة؟  

تدرِّبون الرجال والنساء على حد سواء. هل تختلف السمات السلوكية بين الرجال والنساء؟
 
أودو كومپه: إن أوجه الشبه بين الرجال والنساء تفوق أوجه الاختلاف. فالمخاوف والآمال والتوقعات واحدة في جميع أنحاء العالم، سواء في ألمانيا على سبيل المثال أو في مصر. أما الاختلاف فيتمثَّل في الخصائص أو السمات الثقافية فقط، أما البنية، فواحدة.
 
يمكننا القول من جهة أخرى أن النساء أكثر انفتاحًا وصراحة وعاطفية. في حين يتَّجه الرجال إلى قمع مشاعرهم والتحدث على نحو أقل والتراجع لاتخاذ منظور موضوعي على نحو متزايد.  

إلا أن قضيتي الأساسية هنا تتمثَّل في طبيعة السلوك تحت وطأة الضغط والعنف.  لسنا بحاجة إلى العنف على الإطلاق لإدراك أهم مبدأ على الإطلاق: كلنا سواسية. وجميعنا كذلك أمام العنف.
 
تعملون مع الأطفال أيضًأ. هل تختلف استجابة الأطفال عن الكبار؟

أودو كومپه: الأطفال مستجدون في العالم. يتفاعلون مع بيئاتهم بصورة فطرية تمامًا وبلا انحياز. يبدأ المفهوم الأول بقول "لا تلمسني"، وهو من أساليب الوقاية من العنف المخصصة للأطفال في مواجهة الاعتداءات الجنسية السلبية. لا يزال الأطفال في هذه السن يفتقرون إلى ما يتمتع به البالغون في هذا الصدد من نمط سلوكي مكتسب يُطبقونه عند التعرض للضغط. فعند التعرض لضغط سام أو الشعور بالخوف يكتسب البالغون قدرًا من العدوانية لحماية أنفسهم أو يُصابون بحالة من الشلل. أما الأطفال فلا يتمتعون بقدر صحي من التشكك والريبة، بل بفضول وغريزة للعب والمرح من أجل المرح فقط. ويعلم الجناة ذلك فيستخدمونه ضد الأطفال من خلال توريطهم في أحاديث إلى أن يشعر الأطفال بالارتياح نحوهم ويذهبوا معهم. تنصب مهمتنا على تدريب الأطفال على التحلي بذاكرة الجسدية ونعلِّمهم كيفية التحلي بقدر صحي من التشكك لتحطيم المجال المغناطيسي بين الجاني والضحية. نستمر في محاكاة المواقف حتى يستوعبونها وتصبح كما لو كانت تجري في عروقهم. هذا ما أقوم به مع كافة المشاركين في الدورات التدريبية. وحين أراهم مجددًا بعد عام كامل أخضعهم للاختبار من خلال توريطهم في موقف صعب، وأجد أن الغالبية العظمى تتفاعل بشكل سليم وعلى نحو غريزي. إن الأمر أشبه ركوب الدراجة، ما يتعلمه المرء مرة لا ينساه أبدًا. 
 
تدريب بين أودو كومپه وبيرجيت دامّ أمام الأهرامات بالقاهرة.  تدريب بين أودو كومپه وبيرجيت دامّ أمام الأهرامات بالقاهرة. | ©baKum

عملتم مع الضحايا وكذا مع الجناة. كيف يختار الجناة ضحاياهم، وفقًا لأي نمط؟

أودو كومپه:  ما من قواعد ثابتة، بل مجرد ميول. فالجناة يبحثون عن ضحية وليس عن خصم، تلك الضحية التي لن يواجهون معها أي مقاومة تُذكَر، تلك التي تبدو مستكينة ومرتبكة، وهذا ينطبق على العنف ضد النساء في المقام الأول. أما العنف بين الرجال فيتمحور في معظم الأحيان حول اختبار وقياس القوى. من منَّا أقوى؟ أنت أم أنا؟. أما العنف ضد النساء فيكاد يتمحور في جميع الحالات حول القمع والإخضاع.
 
هل هناك شخصيات أو حالات علقت في أذهانكم بشكل خاص؟

أودو كومپه: هناك حالة لطفل يبلغ ۹ أعوام بمنطقة برلين فيلمرس دورف، وكان في طريق عودته من المدرسة إلى المنزل.  فتوقفت إحدى عربات الشحن البيضاء وقال له الرجل: "مرحبًا، لديّ لعبة نينتندو. أتريد الصعود؟  أجابه الطفل بـ "لا" قاطعة وركض إلى دار الحضانة التي كان يذهب إليها في الماضي وأخبر معلمه آنذاك بما حدث، فاتصل المعلم بالشرطة. رغم أن القصة قد تبدو نمطية للغاية، إلا أن هذا ما حدث في حقيقة الأمر. كنت قد درَّبت هذا الطفل قبلها بثلاثة أعوام، ورغم أنه لم يكن يتذكر حينها أسلوب التعامل الصحيح على الدوام، إلا أنه تصرف كما يجب  عند تعرضه للموقف على أرض الواقع.

تعرفت من خلال تعاملي مع الضحايا على قصص لا حصر لها. إليكم جابي على سبيل المثال، كانت ضحية لأسوأ استغلال وتسنى لها من خلال التدريب المكثَّف اكتساب المزيد من القوة والثقة بالنفس وخوض الحياة مرة أخرى. وهناك سيدة أخرى أقوم بالإشراف عليها منذ ۱٦ عامًا. قام شخص بمطاردتها والاعتداء عليها وهي في أواخر شهور حملها. إلا أن المعتدي لم ييأس بعد مرور كل هذه السنوات، ويحاول الاتصال بها كل بضعة سنوات. وقبل بضعة شهور قمت بتدريب ابنتي للمرة الأولى، وكنت أحاول في الماضي أن أحميها بما تسنى لي من أساليب.  وتلك كانت لحظة عاطفية للغاية بالنسبة لي.

بيرجيت دامّ: انضممت إلى باكوم عن طريق صديقتي. إذ تعرَّضت في إحدى الليالي لهجوم في مسكنها من قبل رجل يرتدي قناع سكريم، وطاردها وهو يحمل سكينًا في جميع أنحاء المنزل، الذي كان خاليًا تمامًا تقريبًا بسبب أعمال التجديد. لازلت أتذكر إلى الآن اتصالها بي لتخبرني أن شيئًا فظيعًا قد حدث. عانت صديقتي فيما بعد من مشكلات عديدة، إذ فقدت الثقة في قدراتها إلى حد بعيد وأرادت الانتقال لسكن آخر. وخضعت على ذلك للعلاج والتدريب في معهد باكوم. واكتسبت المزيد من القوة من خلال تدريب السلامة الوقائي SAFE، وتعلمت كيفية التعامل مع الصدمات. عادت إليها ثقتها بنفسها مجددًا وتسنى لها العودة إلى حياتها مرة أخرى. وهذا هو حال العديد من النساء اللاتي أقابلهن في التدريب، ولذا بقيت في باكوم وأصبحت متدرِّبة إلى جانب عملي الأساسي.
 
ما هي أهم القواعد التي ينبغي اتباعها للخروج من صدمات العنف سالمين؟

أودو كومپه: الحرص بداية على عدم التعرض لمثل هذا الموقف من الأساس. (يبتسم). استمع إلى جهاز الإنذار الطبيعي الموجود بداخلك. إذا ما خالجك هذا الشعور المزعج بداخلك، عليك أن تخلق مسافة آمان. تلك ببساطة هي القاعدة العامة. إذا لم يتسن تنفيذها تلقائيًا، ينبغي تنفيذها بالقوة عبر التراجع أو الهروب. تلك هي السمة الأكثر أهمية: المسافة! كن قريبًا ممن يُشعرك بالارتياح وابتعد عمن يشعرك بعدم الارتياح. 
 
 
أودو كومپه: مؤسس معهد باكوم baKum، مدرِّب على أساليب الدفاع عن النفس والوقاية من العنف، حاصل على الحزام الأسود في رياضة الجوجيتسو والدفاع عن النفس.

بيرجيت دامّ، مدرِّبة غير متفرغة على أساليب الدفاع عن النفس والوقاية من العنف.

معهد باكوم baKum هو معهد للتدريب والتأهيل المستمر، يعمل على مساعدة الناس والمنظمات على تطوير وتعزيز مهاراتهم في التعامل مع حالات العنف المحتملة والأشخاص العدوانيين. ويولي في هذا الصدد أهمية خاصة إلى اتباع نهج شامل يعمل على الربط بين القدرة الدفاعية للجسد والاستراتيجيات النفسية ومهارات التعامل في حالات الخطر والعنف. استهل معهد باكوم عمله في مجال الوقاية من العنف عام ۱۹۹٥ من خلال تدريب النساء والفتيات. وأقيمت من البداية دورات تدريبية على الدفاع عن النفس وإثبات الذات بالتعاون مع المكاتب والشركات وغيرها من المؤسسات. يحرص المعهد منذ ۱۹۹۷ على توسيع طيف خدماته باستمرار، ليمتد نشاط معهد باكوم في الوقت الحالي إلى تدريب الأطفال والشباب والنساء وإقامة ندوات موجَّهة لضحايا جرائم العنف ومرتكبيها أثناء فترة العقوبة، فضلًا عن دورات تدريبية في مقار العمل. نجح معهد باكوم حتى الآن في تدريب أكثر من ٥۰۰۰۰ شخص.