"٢٤ أسبوعاً"
تراجيديا معاصرة عن الإجهاض

"٢٤ أسبوعاً"
الصورة: Das Kleine Fernsehspiel, Filmakademie Baden-Württemberg, zero one film

يُعرّف أرسطو التراجيديا أو المأساة في كتابه الأشهر "فن الشعر" بأنها "محاكاة لفعل جاد مكتمل له تأثير، يرتبط بتعرض شخص عظيم لانعكاس في حظه الحسن"، واضعاً ضمن سماتها أن تُسفر في نهايتها عن تطهير أو علاج الجمهور عبر مروره بخبرة مشاعر تحركها معاناة الشخصيات الدرامية. انطلاقا من هذا التعريف يُمكن بسهولة أن نصف فيلم "٢٤ أسبوعاً" بالتراجيديا المعاصرة؛ ففيلم المخرجة آن زهرة بيراشيد، والمعروض ضمن أسبوع معهد جوتة للأفلام ٢٠١٧ تنطبق عليه كل عناصر التعريف والسمات التي ذكرها أرسطو.

بطلة الحكاية أستريد لورينز (يوليا ينتش) هي "شخص عظيم" بالمعنى الأرسطي. فنانة كوميدية فائقة الشعبية، يملأ الحضور جنبات المسرح التي تقدم فيه عروضها، وتسعى المحطات التلفزيونية للتعاقد معها لمواسم مقبلة. تعيش حياة هانئة مع حبيبها ومدير أعمالها ماركوس (بارن مايدل) وطفلتها الجميلة، وتترقب وصول طفلها الثاني التي بلغت منتصف فترة حملة. نجاح وشهرة وسعادة أسرية، عالم مثالي تعيشه أستريد حتى يأتي الاكتشاف الذي يحرك مأساة الفيلم.

تكتشف البطلة أن طفلها الآت سيكون بنسبة ٩٨ بالمائة مصاباً بمتلازمة داون، لتخوض مع ماركوس المرحلة الأولى للنقاش حول قرار الاحتفاظ بالجنين أو التخلص منه، حتى تأتي الضربة الأقسى باكتشاف معاناة الجنين من ثقبين في القلب سيجعلانه في حاجة لجراحة خطيرة بعد أيام من مولده.
 

المأساة سردياً


أفضل ما تقوم به المخرجة بيراشيد التي كتبت السيناريو بالاشتراك مع كارل جيربر، هو استخدام قواعد المأساة في طرح وتزكية السؤال الأخلاقي حول القرار الملائم الذي يجب أن تتخذه البطلة وشريكها، بحيث يؤدي التأسيس الجيد لتركيبة الشخصيات وعالمها لمنح المأزق المزيد من الأبعاد الدرامية.
سعادة أستريد في لحظة البداية تجعل لصدمتها ثقلاً أكبر، فوجود طفل معاق يفسد فكرة الحياة المثالية، ويجبرها وماركوس على مفارقة الدرب الأقل مقاومة Path of least resistance لحياتهم حسب مصطلح البناء الدرامي، ليتخذا قرار به قدر أكبر من الصعوبة هو التكاتف والإصرار على الاحتفاظ بالطفل ورعايته، قبل أن يأتي العيب الخلقي في قلب الجنين ليرفع من مستوى الصراع، ويزيد المقاومة درجة بل درجات، لما يعنيه الأمر من زيادة الألم والخطر لجميع الأطراف، ثم تظهر فكرة تجاوز الشهر السادس للحمل وضرورة حقن الجنين بمادة سامة قبل الإجهاض، ليصير الأمر عملية قتل رحيم كاملة على الفنانة الكوميدية أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية لتنفيذها.

أما شهرة البطلة فتعطي الأمر بعداً آخر هو تحول خيار إنساني شخصي إلى قضية رأي عام، فقرار الاحتفاظ بالجنين أو التخلص منه لا يصير مجرد أمر تناقشه أستريد مع حبيبها وأمها والمقربين، وإنا يتحول رغماً عنها لإعلان اجتماعي لابد وأن تكون مسؤولة عنه. لتضرب المخرجة بهذا على عدة أوتار كلاسيكية: المهرج الذي يُضحك الناس بينما يبكي هو سراً / الجرئ الذي يتحدث عن كل شيء فيصير عليه الحديث عن حياته / الطموح المهني عندما يغدو مطروحاً داخل نقاش أسري بين زوجين حول مستقبلهما معاً.

هنا يظهر التطابق الشديد مع مفهوم أرسطو للتراجيديا: كون أستريد "شخص عظيم ينعكس حظه الحسن" يكمل أركان المأساة، ويدفع المشاهد دفعاً للتورط عاطفياً في مأزق البطلة والقرار الذي تحتار في اتخاذه بحثاً عن "التطهير أو العلاج"، فيصير السؤال الذي يطرحه كل مشاهد على نفسه ليس فقط "ما الذي ينبغي أن تفعله أستريد؟"، وإنما "ما الذي سأفعله إذا ما كنت مكانها؟".

 
المأساة أخلاقياً


الأزمة في السؤال السابق هي غياب الحل الخالي من الألم. في كل الأحوال ستتألم. إذا ما أخذت قرار الإجهاض فهي تقتل جنينها طواعية لتحمي نفسها وإياه من حياة عسيرة، لكنها شعور الذنب سيطاردها بقية حياتها. وإذا ما قررت إبقائه فهي تحكم عليه بحياة يبدأها بشق صدره واستخراج قلبه ثم إعادته من أجل أن يكمل ـ إذا ما نجحت الجراحة ـ عمره بإعاقة ذهنية وجسدية. لا مجال إذن للسعادة هنا، والوضع المثالي الذي بدأت الأحداث وأستريد عليه صار مجرد ذكرى يستحيل أن تعود. وعلينا كمشاهدين أن نخوض هذا الصراع النفسي وداخلنا صلاة ألا يدخلنا الله في التجربة.


 


أبرز ما فعلته المخرجة آن زهرة بيراشيد على هذا الصدد هو حرصها ألا تنحاز لأي من الخيارين. ألا يكون فيلمها مرافعة مع الإجهاض أو ضده. صحيح أن البطلة في النهاية تصل إلى اختيارها بناء على كل ما حدث لها، لكنه يبقى اختيار الشخصية وليس اختيار الفيلم أو صانعته. ففي "٢٤ أسبوعاً" تقدير لحيرة المأزق وألمه، وتفهم كبير لأن مشكلة إنسانية كهذه من المستحيل أن يُمنح فيها رأي أو انحياز قاطع.
 

الماء سياقاً بصرياً


سيكون من الظلم أن نقصر حديثنا على دراما الفيلم وموضوعه، فالمخرجة لم تكتف بطرح قضية إجتماعية وإنسانية شائكة، وإنما تمكنت من معالجتها بصرياً بصورة تستحق التنويه، باختيارها الماء سياقاً أو هوية بصرية للفيلم. الماء هنا معادل للسائل الأمنيوتي Amniotic fluid المحيط بالجنين داخل الرحم، والذي نراه فعلياً في جسور بصرية تنقل بين فصول الفيلم بما يشبه الأحلام أو الخيالات التي تسيطر على أستريد في خضم تفكيرها في القرار العسير. فنشاهد تفاصيلاً جنينية تقرب فكرة الحلم المرتبط بأعراض فسيولوجية والذي يمكن أن تراه امرأة حبلى.
بخلاف هذه المشاهد يتواجد الماء بصور مختلفة على مدار الفيلم: في الساونا أو الحمام العام الذي تذهب إليه البطلة وفيه تلتقي بنساء أخريات (يوظف المكان درامياً في معرفتها متابعة الرأي العام لحالتها)، في المسبح الذي تخلق المخرجة فيها كوريوغرافيا choreography  سباحة تتماشى أيضاً مع تشتت ذهن البطلة، وفي أشكال أخرى مختلفة على مدار الشريط يحكم الماء فيها الصورة الفيلمية.

قيمة الاختيار ليست جمالية فحسب، وإنما هو ربط بصري بين الأم وجنينها. فإذا كان الجنين يسبح داخل رحمها في السائل الأمنيوتي مرتقباً حسم مصيره، فأستريد هي الأخرى تسبح في مرحلة جنينية ستولد من جديد بعدها امرأة مختلفة. امرأة أنضجتها التجربة والألم والشعور بالمسؤولية والذنب، فغيرت علاقتها بأسرتها وعملها وبالعالم كله من حولها. امرأة كان عليها أن تفكر في أصعب فعل في التاريخ "قتل الأم لابنها" باعتباره احتمالاً منطقياً وقراراً يجب اتخاذه من أجل مصلحة الجميع.
"٢٤ أسبوعاً" إذن هو نموذج للتراجيديا الأرسطية المعاصرة، تروي مخرجته حكاية تسير على القواعد التي وضعها "فن الشعر" للمأساة، وتعالجها بخيارات بصرية آتية من قلب حكاية الفيلم وعالمه، ليكون الناتج فيلم محكم الصناع، بالغ التأثير، لا يقتصر نجاحه على تقديم حكاية شيقة أو طرح قضية مهمة، وإنما يمتد للخيارات الشكلية والأسلوبية التي أخذتها صانعة الفيلم.