إيريش كِستنر طالبا
حياة أدبية شكلتها الدراسة
لم يولد إيريش كِستنر أو يتوفى في لايبتسيغ، بل جاء إلى المدينة الواقعة على نهر بلايسه في عام 1919 لدراسة علوم اللغة الألمانية وآدابها والتاريخ والفلسفة وعلم الصحافة وعلوم المسرح. شكلت المدينة والجامعة وأعماله الأولى ككاتب بقية حياة إيريش كِسنتر.
من د. سيباستيان شميديلر
مقابلة مع د. سيباستيان شميديلر ، أحد أعضاء الهيئة البحثية في أدب الأطفال والشباب في كلية العلوم التربوية بجامعة لايبتسيغ.
السيد د. شميديلر ، كيف ومتى أتى إيريش كِسنتر إلى لايبتسيغ؟
أقام كِستنر في لايبتسيغ منذ الفصل الدراسي الشتوي لعام 1919/1920 على فترات متقطعة. وكان أهم الأسباب لذلك هو أن "المنحة الذهبية" لمدينة دريزدن والتي حصل عليها بسبب انتهاءه من الدراسة الثانوية بنجاح باهر في مدرسة الملك غيورغ الثانوية الإصلاحية نصت على أن يلتحق كِستنر بالدراسة في جامعة ولاية ساكسونيا المرموقة. ولسوء الحظ، وبسبب التضخم أصبحت هذه المنحة المالية لا تساوي بعد وقت قصير شيئا تقريبًا.
كيف ينبغي علينا أن نتخيل الدراسة في لايبتسيغ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بالنسبة لكِستنر الشاب؟
على أيه حال غير مريحة. وما نطلق عليه الآن بشكل جميل "التوازن بين العمل والحياة" كان أمرا يكاد يكون مجهولا بالنسبة لجيل كِستنر. كانت الدراسة تعقد ليلا. وبصرف النظر عن الفاعليات التدريسية التي كان يحضرها كِستنر باجتهاد كان عليه بالنهار أن يكدح مع جميع أنواع "لُقم العيش" من أجل البقاء ماليا على حد الكفاف. وبالرغم من أن اثنين من أخواله كانا من الأغنياء إلا أنه جاء من بيت فقير من الطبقة العاملة. لقد استطاع الصعود اجتماعيا وكان موهبة استثنائية – وكان ذلك أمرا غير عادي لأن معظم زملائه الطلاب الذين كانوا في الغالب من الذكور جاءوا من بيوت الطبقة البرجوازية حيث لم يكن يلعب المال دائمًا دورًا رئيسيًا.
وسرعان ما استطاع أن يشق طريقه إلى الأوساط الفنية، وكان لديه ميل إلى الحياة البوهيمية، وتم اكتشافه وتشجيعه بوصفه شابًا صحفيا موهوبًا. واستطاع أن يتنقل بين صحف ومجلات لايبتسيغ وأن يفرغ فيها طاقته ككاتب صحفي – وبالمناسبة أيضا بنصوص للأطفال (لفترة طويلة حتى قبل روايته الناجحة إيميل والمحققون السريون).
وما هي إلا لحظات معدودة حتى لم أكن استطيع بمبلغ المنحة الشهرية إلا أن أشتري ما لا يزيد عن علبة السجائر. ومن ثم أصبحت طالبًا عاملاً، أي ما يعني أنني كنت أعمل في مكتب، وكنت أحصل بنهاية الأسبوع كأجر على حقيبة مستندات كاملة متخمة بالأموال، وكان علي أن أركض لو أردت في مقابل هذا المال شراء شيء آكله؛ فعند ناصية الشارع كانت قيمة مالي – بسبب التضخم الهائل –أقل مما كانت عليه عند الخزينة من برهة. كان ذلك عام 1923. وكانت الدراسة تتم ليلاً.
كان كِستنر يوصف بأنه شديد الطموح فيما يتعلق بعمله كاتبا وصحفيا خلال فترة وجوده في لايبتسيغ. هل كان لا يزال هناك متسع للحياة الطلابية إلى جانب الدراسة؟
بادئ ذي بدء كان هناك في المقام الأول متسع كبير في حياة كِستنر لـ "مامته"، والدته إيدا كِستنر، التي كان تربطه بها صلة وثيقة. حتى خلال فترة وجوده في لايبتسيغ كان يرسل لها كل أسبوع غسيله وكان يرسل لها كل يوم بطاقة بريدية. من ناحية أخرى شارك كِستنر بصفته صحفيا شابا مشاركة شديدة الفاعلية في الحياة الثقافية في مدينة لايبتسيغ – وكتب عن تلك الحياة في جميع فروع الكتابة، بما في ذلك النقد الفني؛ كما أتيح له الاطلاع على جميع أنواع الأحداث الاجتماعية والسياسية في المدينة، حيث حضر لقاءات خاصة مع مشرفه على الدكتوراه، وكان صديقًا لفنانين شباب مثل إيريش أوزر باسمه المستعار (إيه أو بلاون) (E.O. Plauen)، وكان له اتصالاته مع ناشري لايبتسيغ. تعامل كِستنر مع المدينة على نحو استراتيجي عميق؛ فمن ناحية كان عظيم الاجتهاد، وعظيم الموهبة الأدبية مع التمتع بدرجة كبيرة من الثقة بالنفس وكان أيضا بلا شك وصوليا بعض الشيء. ربما لم تكن "الحياة الطلابية" هي بؤرة اهتمامه، على الأقل ليس بالطريقة التي تبدو عليها اليوم بديهية. كان عدد الطلاب أقل بكثير مما هو عليه اليوم، وكان برنامج الدراسة أكثر نخبوية وأكثر قابلية للإلمام به مما هو عليه الحال الآن في جامعة كبيرة إلى حد ما تضم عدة آلاف من الطلاب.هل كان هناك أماكن محببة في لايبتسيغ زارها كِستنر الطالب والصحفي؟
ميدان أوغستوسبلاتس حيث كان يقضي استراحة الغداء فيه مدخنا السجائر. مقهى فيلشه .هل يمكن وصف كِستنر بأنه "توخولوسكي أدب الأطفال"؟
لا. لأكون واضحا فإن المقارنة ما بين الاثنين لا تستقيم مطلقا. فقد كان توخولوسكي واحدا من أفضل الصحفيين والكتاب في جمهورية فايمار وأشهرهم، لكنه تخصص تماما في النثر القصير والشعر الوظيفي، لكنه لم يكن له أي علاقة بأدب الأطفال. وكان سيد النقد اللاذع. يعد عمل كِستنر من ناحية القالب الأدبي أكثر شمولاً وتنوعًا – بدءًا من قصيدة الشعر الوظيفي مرورا بالنثر الصحفي (وهنا يتقاطع مع توخولوسكي)، مرورا بروايات الأطفال و"الناس الكبار"، وحكايات للبالغين، وسيناريوهات الأفلام، والمسرحيات وصولا إلى العروض الإذاعية، كل منا سيجد في كل هذا شيئا من بغيته. كان لدى كِستنر موهبة استغلال مواده (الخاصة بأدب الأطفال) في المجال الإعلامي. وكان هذا أمرا في عصره سابقة كبيرة. ما يحلو التغاضي عنه غالبًا هو أن روايات كِستنر للأطفال شهدت منذ البداية توزيعا إعلاميا. وفي حالة روايته "لوتّه الصغيرة المزدوجة" كان ارتباطها بمجال صناعة الفيلم حتى هي المنطلق لكتابة هذا الكتاب من كتب كِستنر للأطفال. ينفرد كِستنر بموقعه هذا وهو في الواقع لا مجال لمقارنته بأحد – وكان دائما ما يعرف كيف يوظف هذا المشهد لصالحه على نحو مثير للإعجاب. كان نجم أدب الأطفال في جمهورية فايمار وفي فترة ما بعد الحرب.
كيف شكلت جامعة لايبتسيغ وشخصيات من الجامعة شخصية كِستنر؟
في لايبتسيغ تعلم كِستنر كيف يكتب على نحو موجه ومقتضب وكيف يفكر بعمق، هكذا قد يمكننا تلخيص الأمر. وهنا طور أسلوبه الفريد وأصبح رجل الوسط. غالبًا ما ينتقد فيه اعتداله، لكنه موقف أساسي عنده يتشكك من العالم يمكننا تفهمه. يظهر ارتباطه بالجامعة بحقيقة حصول كِستنر على درجة الدكتوراه هنا في لايبتسيغ. كان لديه معلمون رائعون مثل عالم الأدب ألبرت كوستر ، وهو باحث في جوته ومتخصص في المسرح، وهو الذي شارك في إيقاظ اعجاب كِستنر بالمسرح، وكان له داعمون مهمون مثل غيورغ فيتكوفسكي ، الذي أشرف على أطروحته للدكتوراه بعد انتحار كوستر – وفي هذه المرحلة جاءت دراسة مادة علم الصحافة. لقد رأى نفسه طوال حياته كاتبًا مثقفًا (" أديبا معلما")، وأيضًا مؤرخًا أدبيًا ذا مهمة ديمقراطية، لكنه كان يحب إخفاء ذلك خلف أسلوبه الذي كان يبدو في الظاهر أنه سلس بسيط. وكان حصوله على درجة الدكتوراه مهم بالنسبة له ومعها الجامعة باعتبارهما الأساس الفكري لكتاباته وفكره. لكنه شكلته أيضا مدينة لايبتسيغ نفسها التي لا شك أنه كان يحبها حبا جما.ولكن كان الأمر واضحًا: كان لا يمكن لموهبة كِستنر في جمهورية فايمار أن تتطور إلا في العاصمة برلين، وليس في مدينة بوسط ألمانيا مثل لايبتسيغ. لكن لايبتسيغ كانت آنذاك مركزًا لثقافة الكتاب، وقد كان يعرف كيف يقدر لهذا الأمر قدره. في الواقع لا شيء أفضل من هذه البيئة المحيطة كانت يمكن أن تحدث له كمحطة بينية ما بين دريزدن وبرلين.
كان يمكن لكِستنر أيضًا أن يكون أستاذًا جيدًا للأدب، لكن هذا كان سيكون بالنسبة له بوصفه فنانا كاتبا متعدد المواهب، أمرا أحاديا للغاية.
ما هي البصمة التي تركها كِستنر في جامعة لايبتسيغ؟
كتب كستنر أيضا تقارير صحفية عن أحداث أكاديمية مهمة مثل المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها هيرمان أوجست كورف، أحد الممثلين الأساسيين في المجال البحثي حول أدب عصر جوته. لقد أثار بأعماله العلمية إعجاب أساتذته الأكاديميين – وحتى عندما تقدم به العمر قام كستنر بتضمين مقتطفات من أطروحة للدكتوراه التي حصل عليها في لايبتسيغ في إطار طبعة أعماله المجمعة، بل نشرها كدراسة منفردة في إحدى دور النشر العلمية، مما يوثق الأهمية الكبيرة لجامعة لايبتسيغ في سيرته المهنية بصفته كاتبا. لا يزال في أعماله غير المنشورة في الأرشيف الأدبي في مدينة مارباخ أعمال بحثية وغيره من المواد تعود إلى فترته الطلابية. أرى أن كِستنر كان يمكن أيضًا أن يكون أستاذًا جيدًا للأدب، لكن كان هذا سيكون بالنسبة له – وهو الفنان متعدد المواهب كتابةً – أمرا أحاديا للغاية.هل لا تزال هناك أماكن في لايبتسيغ اليوم، وخاصة في جامعة لايبتسيغ، تذكرنا بكِستنر؟
يحتفظ أرشيف الجامعة بملفات الدكتوراه الخاصة به. لا يزال إلى اليوم ميدان أوغستوسبلاتس وحرم الجامعة هما نواة الجامعة التي تتركز فيها الحياة الجامعية. ولكن مع فارق أساسي: المكان الذي يضم اليوم علوم الاقتصاد كان آنذاك محراب العلوم الإنسانية التي كانت تتمتع بسمعة عظيمة الشأن داخل البنية الأكاديمية للجامعة. ونجاح كِستنر يعد أيضًا بعضا من النجاح الذي شهدته فترة ازدهار العلوم الإنسانية في هذه السنوات والتي كانت تتمتع آنذاك بسمعة ممتازة حتى خارج حدود لايبتسيغ.هل تنقل روح كِستنر الأدبية والصحفية إلى طلابك؟
"الروح" أحد الأمور. وللإجابة على السؤال بموضوعية سنوضح الأمر كما كان يقدره كِستنر: كان كِستنر موهبة استثنائية وكان يستطيع أن يصيغ كتاباته على نحو شديد الدقة. وهو أمر لا يسعنا هنا تقليده. يمكن لشجاعته – حتى بعد عام 1933 عندما أحرقت كتبه – أن تكون حتى يومنا هذا مثالا يحتذي به في التمسك بأدب أطفال الحداثة في خدمة الثقافة الديمقراطية – وذلك في ظل ظروف شديدة الصعوبة فيما يسمى بـ "الهجرة الداخلية". ويحق لدارسي اليوم أن يعتبروا أنفسهم محظوظين لأنهم كانوا في غنى عن مثل "اختبارات إثبات الذات" تلك.فيما يتعلق بصورة النساء والفتيات عند كِستنر فإنني سأميل إلى القول بأننا يجب أن نتحلى هنا بأقصى درجات النقد وبأن عمله يحتاج إلى إعادة قراءة. وقد لا أميل في عصر الحساسية الجندرية والصوابية السياسية أن أنقل بالضرورة هذه "الروح" إلى آخرين.
إلى أي مدى لا يزال كستنر يحتفظ بحيويته فيما يتعلق بأدب الأطفال والشباب اليوم؟
لا يزال كستنر واحدًا من أهم مؤلفي كتب الأطفال باللغة الألمانية وأكثرهم انتشارا على الصعيد العالمي في القرن العشرين. ولن يهز من ذلك شيئا حتى في عام 2022. لا يزال اسمه معروفًا في جميع أنحاء العالم مثل نار على علم. وقد استلهم بعض مؤلفي كتب الأطفال مثل أندرياس شتاينهوفيل الذي يحلو غالبا نعته بـ "كِستنر الجديد" من جماليات كِستنر في كتابتهم الخاصة. لا تزال كتب الأطفال لكِستنر تباع كسابق عهدها على نحو جيد على الرغم من أن عمر كثير منها سيبلغ مائة عام في السنوات المقبلة. ومن ثم لا يزال كِستنر حاليًا بمثابة علامة تجارية مميزة للديمقراطية – في جمهورية فايمار وكذا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.هل لا يزال الأطفال والشباب يقرأون كِستنر اليوم أم أنه لا يجري استهلاكه أدبيا إلا عن طريق المعالجات الفيلمية لكتبه (إيميل والمحققون السريون، لوتّه الصغيرة المزدوجة، الفصل الطائر، بونكتشن وأنطون)؟
نعم، هذا اتجاه لم يعد من الممكن إيقافه. لهذا الأمر جانبان: فمن ناحية يمكن للمعالجات الفيلمية اليوم أن تعمل على جعل مادة أدب الأطفال تتمتع بحيوية تستهدف جمهور الشباب الحالي. ومن ناحية أخرى فإن الذكاء اللغوي ونبرة كِستنر المميزة يضيعان عندما نتوقف عن قراءة كتبه في أصالتها. كان كِستنر أيضًا بوصفه مؤلفا لكتب الأطفال ممثلًا للحداثة الأدبية. ولا يمكن في الواقع استيعاب هذا الأمر على نحو ملائم إلا إذا قرأت كتبه ورأيت فيه من خلال هذا السياق تحديدا كاتبًا مثقفًا. لقد كان واحدًا منا لأنه أصبح هنا في هذه الجامعة ما هو عليه اليوم: موهبة كتابية عظيمة، ليس فقط بوصفة مؤلفا لكتب الأطفال.أجرى المقابلة ميشائيل ليندنر. نُشر لأول مرة في مجلة جامعة لايبتسيغ بتاريخ 22 فبراير/ شباط 2022 . يتقدم معهد جوته بالشكر لجامعة لايبتسيغ على السماح له باستخدام هذا الحوار وترجمته.
إيريش كِستنر يحب لايبتسيغ | © Colourbox