التعددية اللغوية
أكثر إبداعًا وتلقائية مع التعددية اللغوية

أكثر إبداعًا وتلقائية مع التعددية اللغوية
أكثر إبداعًا وتلقائية مع التعددية اللغوية | صورة: ميلي بيلجيل

الأشخاص الذين يتحدثون أكثر من لغة هم من يكتسبون اللغات التي يتقنوها في أوقات زمنية مختلفة في حياتهم وفي سياقات متعددة مثل الأسرة والمدرسة أو الإقامة في بلد لتعلم اللغة. من خلال ذلك لا يكتسبون قدرات تواصلية فحسب بل يطورون شخصيتهم. والتعددية اللغوية لها مميزات كثيرة بالنسبة للأطفال على وجه الخصوص.

ملخص

التعددية اللغوية فرصة  وللاستفادة منها يجب أن يتعلم الأشخاص متعددي اللغات استغلال الجسور بين لغاتهم والفصل بينها في نفس الوقت. كما يتعين عليهم أيضًا أن يتعلموا إدراك علامات تعددهم اللغوي بوصفها قدرات إيجابية مثل بيئاتهم. وتلك القدرات تصبح مفيدة في تركيبات محددة. ومن ثم تنشأ شخصية متعددة اللغة التي تستطيع اكتساب أشياء كثيرة على نحو أفضل في تطورها. وأن تصبح أكثر إبداعًا وتلقائية. ويصبح لزامًا على سياسة التعليم تشجيع الفرص التي تكمن في التعددية اللغوية.

يتعلم كثير من الناس عدة لغات في نفس الوقت أو في أوقات متلاحقة. ويتم ذلك بشكل أكثر فاعلية كلما نجحوا في عدم إبقاء معارف كل لغة منفصلة بل ينسقون بينها، أي استغلال العلاقات بين اللغات التي يجب اكتسابها إلى أقصى حد. وفي حصة تعليم اللغة الأجنبية على وجه الخصوص يجب تعظيم الاستفادة من هذه "القدرة على اكتساب أكثر من لغة"، أي قدرة المتعلمين على بناء جسور بين اللغات وتأسيس كفاءة تكاملية(Bono ٢٠٠٨; Bono, Stratilaki ٢٠٠٩).

ضرورة أخذ التعددية اللغوية على محمل الجد

غالبا ما يتم التواصل في الحياة اليومية بلغات فردية. ويكمن التحدي بالنسبة للأشخاص متعددي اللغات في الفصل بين اللغات التي يتحدثون بها أي نقل تلك العناصر الصوتية والنحوية والمعجمية والبرجماتية من الكفاءة المتعددة التي تناسب كل لغة يتحدث بها. هذا الأمر ليس بالعملية اليسيرة دومًا وتخلف آثارًا مثل اللكنة والإسناد النحوي إلى لغة أخرى أو نقل عادات تعبيرية وحركية من لغة إلى أخرى.
 
تؤدي هذه "الملاحظات الملفتة للانتباه" إلى تقييم سلبي للتعددية اللغوية. وبنظرة أكثر دقة يظهر أن هذا الأمر لا يمت بصلة حقًا إلى التعددية اللغوية بل هو نتاج التقييم الاجتماعي والأطر الموروثة تاريخيًا. عندما يتحدث طفل لدبلوماسي فرنسي اللغة الألمانية بلكنة فرنسية  أو بإدراك تأثير اللغة الفرنسية على القواعد النحوية فلا يثير ذلك الأمر قلق أحد. حيث يتم النظر إلى هذا الشكل من التعددية اللغوية بوصفه فرصة ويُنظر إلى اللكنة بأنها "لطيفة" أو "شائقة". أما بالنسبة لطفل أحد العمال غير المتعلمين من المغرب الذي تتحدث أسرته الفرنسية والعربية بلهجة مغربية فإن نفس السمات تعد بمثابة علامة على تطور لغوي معرض للخطر. في مثل هذه الحالات لا تعد الحياة في لغات متعددة بمثابة ميزة بل مخاطرة.
 
يُصعب هذا التأثير للتقاليد والمشاعر والتصورات القيمية من التعامل الموضوعي مع التعددية اللغوية في السياق التعليمي بل وفي مجالات مجتمعية أخرى بشكل كبير. صحيح أن المحيط الاجتماعي والاقتصادي لطفل - خاصة مستوى تعليم الأسرة - يؤثر على تطوره اللغوي إلا أنه في التعددية اللغوية نفسها توجد فرص أكثر من التهديدات بشرط أن تؤخذ بجدية باعتبارها جزء من الكيان الوجودي وشرط للتعليم بشكل متساو.

الإبداع والتلقائية

في واقع الأمر توصي كثير من الدراسات بأن للتعددية اللغوية التي يتم ممارستها بشكل متجانس فوائد عظيمة على الفرد والمجتمع وهذا الأمر ينطبق مثلا بالنسبة للإبداع والقدرة على الأداء. وصل فريق من الخبراء تابع للاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٩ إلى نتيجة مفادها أن "التعددية اللغوية تؤدي إلى عدد أكبر من التشابكات العصبية". وهي "تحفز شبكات عصبية داخلية كثيرة داخل وبين فصي المخ فتؤدي إلى كفاءة أكثر وضوحًا وتنشيط عمليات جديدة (إبداعية وحديثة) (Compendium ٢٠٠٩: ١٩).

ومن ثم تكمن ميزة التطور اللغوي والذهني للطفل في أن التعددية اللغوية تدعم تنشيط قدرات معرفية قيمة. ويصبح الأطفال الذين يعيشون التعددية اللغوية  بشكل أكثر تركيزًا وأسبق من غيرهم مجبرين عن الأطفال أحادي اللغة في "التمعن في التفكير" في استخدامهم اللغوي واتخاذ قرارات بشأن اختيار إمكانية من الإمكانات اللغوية المتاحة لهم. هذا الأمر يدرب كفاءاتهم اللغوية والذهنية بشكل خاص. ومن ثم يصبح الأطفال متعددي اللغة أفضل من الأطفال أحادي اللغة بل وأسبق منهم في تمييز معنى التصريحات وأشكالها ويمتلكون "قدرات لغوية فوقية" من ممارستهم اللغوية اليومية أي معرفة لغة وأشكالها الوظيفية وهذا شرط جيد للتعلم في المدرسة.

هذا الأمر أخيرًا وليس آخرًا يوفر شروطًا أولية في تعلم القراءة والكتابة. لأن الأمر يتعلق في البداية على وجه الخصوص بمعرفة أن النظام الصوتي ونظام الكتابة يتبعان قواعد مختلفة. نحن لا "نسمع" كيف نكتب وكي نستطيع الكتابة علينا معرفة التقاليد التي نكتب بها شيئًا منطوقًا في لغة محددة. إدراك مثل هذه الاختلافات هو الأمر الذي يتسلح به أطفال تربوا وعاشوا في بيئة متعددة اللغات على نحو جيد للغاية (Bialystok, Poarch ٢٠١٤; Gogolin ٢٠١٤).

"الفضاء الثالث"

وبالتالي نستطيع أن ننطلق من أن الأشخاص متعددي اللغات يملكون مرونة معرفية أكبر لأنهم ينظرون إلى العالم من وجهات نظر مختلفة ويستطيعون فهم هذا العالم عن طريق"أدوات" لغوية مختلفة. وتحدث قدرتهم الإبداعية العالية في "فضاء ثالث" حسب مفهوم عالم الثقافة هومي بابا (١٩٨٨، ١٩٩٤) أو ما يعرف باسم "in-between space" حيث تتقابل لغتان أو طريقتان في التفكير أو ثقافتان أو أكثر.

لا تتضح النتائج الإيجابية للتعددية اللغوية من تلقاء ذاتها بل تفترض أن التعددية اللغوية وخاصة المتعلقة بالهجرة معترف بها مجتمعيًا وتشجعها السياسة التعليمية.

إذا أخذنا التعددية اللغوية على محمل الجد فإن هذا لا يعني بالنسبة للمدرسة إدانة الكفاءة المتعددة مثل اللكنة أو النقل المعجمي بل تعني دلائل على شخصية بل أنها تساعد الأشخاص المعنيين في نفس الوقت على إخفاء اللغات الأخرى في مواقف أحادية اللغة.