في ألمانيا، تُغلق أبواب كثيرة قبل أن تُفتح نافذة. أرى الحياة هنا فصلاً من حياتي، بداية واضحة ونهاية غامضة. مقال شخصي للفنان موسى مبارك، أحد أبناء قبائل الطوارق.
"ألقِه خلفك، ستراه أمامك." نادراً ما تعكس الترجمات الألمانية المعنى الحقيقي للأمثال في لغة أخرى. ففي لغة الطوارق يعني المثل تقريباً: ساعد شخصاً الآن، فسيساعدك لاحقاً.لا، ليس لديّ الشعور بأن أحدًا هنا يفكّر بهذه الطريقة. أنا أتحدث لغة التماشق، وفي هذه اللغة تكمن هويتي، هذه اللغة توحّدنا وتربط بيننا نحن شعب الطوارق – ومدى قوة هذا الرابط اكتشفته حقًا في المهجر. عندما أشرح للناس في ألمانيا ثقافتنا، أشعر بذلك أكثر من أي وقت مضى. أنا دائمًا أبحث عن أشخاص يتحدثون لغتي، فحتى العربية لا تستطيع أن تُخفّف من هذا الشوق. كثيرًا ما لا توجد كلمات تعبّر عن أشياء من ثقافتي. وحيثما تنقص الكلمات، يتدخل الفن. لذلك أساند في وطني القديم، ليبيا، الحركات الحقوقية لشعبنا من خلال إسهامات فنية.
جذوري مُمَزقة
قبل ما يقارب العشر سنوات هربتُ من ليبيا، وأعيش منذ ذلك الحين بالصدفة في ألمانيا. كان أمامي خياران: الموت في الحرب في الجنوب، أو الغرق في البحر في الشمال. وكما فعل كثير من الناس، سلكت الطريق عبر البحر إلى إيطاليا. لكن إيطاليا لم ترِدني، وكان عليّ مغادرة البلاد خلال عشرة أيام،مثل طرد بريدي – رسالة غير مرغوب فيها. وهكذا قادتني رحلتي إلى ألمانيا.
أنا من أوباري، التي تقع في جنوب غرب ليبيا.
وُلدتُ كابنٍ لأسرة من البدو الطوارق، وبالتالي بلا جنسية. في ستينيات القرن الماضي عرض القذافي على الطوارق الجنسية بشرط أن يتبنّوا القومية العربية، لكن أسرتي لم تخضع لذلك. كان فقدان الهوية كطوارق، والانصهار الثقافي والسياسي، أمرًا لا يُحتمل بالنسبة لها. وهذا القرار يطبع حياتي حتى يومنا هذا: لا جنسية، لا جواز سفر، لا هوية.
كان هدفي دائمًا أن أدرس. وبين رغبتي في أن أصبح مهندسًا، أو أن أدرس الفن، وقفت أصولي عائقًا. بقرار والديّ أُغلقت أبواب كثيرة، لأن من لا يملك جواز سفر يُعامل طوال حياته كإنسان من الدرجة الثانية، حتى في وطنه. وهكذا لم يكن ممكنًا لي أن أدرس أو أسافر. وبعد المدرسة لم أتمكن إلا من العمل كعامل غير مؤهّل، سواء في ورش تصليح السيارات، أو في مجال الخدمات اللوجستية.
عندما جعلت الصراعات في ليبيا الحياة الطبيعية لا تُطاق، إذ كان من الممكن أن يُطلق عليك الرصاص في أي وقت من قِبل الميليشيات المتناحرة، وكان الأجر لا يكفي للبقاء على قيد الحياة، أصبحت الصور في رأسي أكثر قتامة. وبعد أن تعرّضت للحبس جاء اليوم الذي أدركت فيه أن عليَّ أن أترك وطني، الوطن الذي لا يمنحني أي مستقبل. لم يكن لدي هدف محدد، سوى الرغبة في التمسك بالأمل.
وعندما وصلتُ إلى ألمانيا لم تكن لدي هوية، إذ لم أكن أملك جواز سفر، وهكذا انغلقت أمامي أبواب أكثر. فمعظم القوانين التي تسري علينا نحن اللاجئين تشترط كأساسٍ لفعاليتها وجود هوية شخصية مُثبتة؛ وبدونها لا يمكنك ـفي ألمانيا أيضًاـ فتح حساب بنكي، أو الحصول على عمل، أو الزواج. والهوية تعني أن يكون لديك جواز سفر.
دون جواز سفر يُعدّ الإنسان عديم الجنسية. كل شخص يملك جواز سفر يجب أن يحافظ عليه جيدًا، فهو يجعلك في ظل قوانين العالم إنسانًا، كما أنه يحميك.
طريق شاق امتد لسنوات للحصول على جواز السفر
أكبر المشاكل هنا تعود إلى وضعي القانوني وإلى البيروقراطية الألمانية. أنصح كل من يفكر في الهروب أن يأخذ جميع أوراقه معه في الرحلة، وأن يحاول تعلم بعض اللغة قبل الوصول. العيش في بلد مثل ألمانيا آمن، والناس يتمتعون جميعًا بالحقوق نفسها، ولكن ذلك يتحقق فقط إذا تم الاعتراف بك رسميًا.المهم أن تجد عملًا، وأن تتحدث اللغة الألمانية. العنصرية موجودة ويمكن الشعور بها، لكنها ليست مُهدِّدة للحياة حتى الآن. ولمواجهتها، أعمل أيضًا في جمعية "شهود على الهروب"، إنها جمعية نقوم فيها بعملٍ تثقيفي مناهض للعنصرية. ننظم زيارات مدرسية، وأيامًا مخصصة للمشاريع، لنلتقي بالشباب مباشرة ونتبادل معهم الحوار.
الجمعيات في ألمانيا مكان جيد للتعرف على الناس. وهذا أيضًا كان عليّ أن أتعلمه، لأنه لم يكن هناك شيء مشابه في ليبيا. في الجمعيات تلتقي بأشخاص لديهم المشكلات نفسها، فتشعر أنك مفهوم، تستطيع أن تنسى همومك قليلاً وأن يكون لك بعض التأثير.
ومع ذلك لا أستطيع أن أقول إنني قد أنشأت لنفسي شبكة علاقات بالفعل. هناك عدد كبير من الأشخاص الذين يمكنني أن ألجأ إليهم، والذين يساعدونني عند الحاجة. لقد حالفني الحظ أن تعرفت على كثير من الأشخاص في مدينة دريسدن، وقد منحوني الشعور بأنني يمكن أن أنتمي إليهم؛ فعندما يكون الإنسان غريبًا في بلد جديد، يحتاج إلى دعم ومساعدة من الناس الذين يعيشون هناك.
لكنها ليست شبكة حقيقية بالفعل، إذ أفتقدُ اللغة. للأسف، غادر كثير من أبناء بلدي ألمانيا مرة أخرى، لأنهم فشلوا أمام العقبات البيروقراطية؛ وأنا أحتاج أيضًا إلى أشخاص من أبناء شعبي كي أشعر بأنني في بيتي.
لكن من المهم ألّا أعيش في الماضي، لذلك تعلّمتُ اللغة الألمانية، وأرغب أيضاً بطريقة ما أن أصل إلى شيءٍ ما؛ كلاجئ لم يُعترف بي، ولكن ربما بعد سنوات من النضال وأنا شخصٌ بلا جنسية.
لا أستطيع أن أقول، بعد ما يقارب العشرة أعوام ، إنني سأُرسّخ جذوري هنا، فما زالت الأرض جافة، لكن ربما يأتي المطر، فأبقى هنا، وأُنمّي فروعاً وأوراقاً وأزهاراً.
أكثر من ألف كلمة
ولأني أريد أن أواصلُ طريقي، وأن أوفِّر على الآخرين خوض نفس المصير، بدأتُ أضع أفكاري والصور التي في رأسي على الورق، فلغة الصور تُفهم من دون كلمات، لذا فإنها أداتي للتعبير عن نفسي وللتواصل مع الآخرين.في ربيع عام 2019 كان لي الحظ الكبير أن أدرس كطالب زائر في كلية الفنون الجميلة بمدينة دريسدن في قسم النحت المسرحي.
لقد اغتنمت هنا الفرص لتعلّم تقنيات فنية جديدة، كالرسم بالحبر، أو تشكيل المنحوتات، أو الاستفادة من وضوح الحفر على الخشب واللينوليوم. لقد أبدعتُ صورًا يمكن أن تُفهم عبر حدود اللغات والثقافات. وبالطبع ما زالت لديّ هموم ومخاوف، لكن الفن ساعدني على التخفيف منها.
أما التجربة المتمثلة فيما يمكن أن يُقال بالصور حين يكون المرء لا يملك الكلمات بَعد، فهي لا تُقدّر بثمن. فالأطفال الصغار، أو كبار السن، يرون أشياء لم تكن معروفة لهم من قبل.
كانت الفنون رفيقًا دائمًا في حياتي، لكنني لم أكن أتصور أبدًا أن للفن هذه القدرة الكبيرة على التأثير. لقد فتح لي هنا أبوابًا، وصار وسيلة لفضح المظالم السياسية وجعلها مفهومة.
أخيرًا وجدت لغة يمكن للجميع أن يفهمها. هناك الألم والظلم اللذان لا يتركانني أحيانًا في راحة، لكن هناك أيضًا الصحراء: صفار الكثبان، وزُرقة السماء، وبياض الشمس في الصباح. كل ذلك حاضر في لوحاتي الملوّنة. إنها تحيَّة إلى ثقافتنا، إلى ما كان منذ زمن بعيد، وإلى ما سيتجاوز السياسة الراهنة.
الثقافة والتعاطف أفضل
ما يدهشني دائمًا هو جهل الناس هنا. يسمعون أنك قادم من أفريقيا، فيسألونك إن كنت قد رأيت زرافات وأسودًا. أفريقيا قارة غنية ومتنوعة، تضم 54 دولة، وأكثر من 2000 لغة، وما يزيد عن 3000 مجموعة عرقية، لكنهم هنا لا يعرفون سوى صورة نمطية بعيدة عن الواقع. وما لا أفهمه أيضًا هو هذا التعالي علينا؛ فنحن جميعًا بشر؛ وجميع البشر متساوون في القيمة.وبشكل عام، لا يوجد هنا فهم حقيقي لأسباب تركنا لوطننا. ويبقى بالنسبة لي التساؤل:
ما الذي يصنع قيمة الإنسان؟
والإجابة بالنسبة لي: قيمة الإنسان فيما يبحث عنه.
٢٠٢٥ أكتوبر