الوصول السريع:

(Alt 1) إذهب مباشرة إلى المحتوى (Alt 2) إذهب مباشرة إلى مستوى التصفح الأساسي

هبة كمال
جرعة مكثفة من الذات

تعريف:
 
هبة كمال كاتبة وباحثة نسوية، حصلت على درجة الماجستير في النوع الاجتماعي والتعليم من جامعةUniversity College London (UCL). اهتماماتها البحثية تشمل تقاطع النوع والدين، ومادية الدين، والتجربة الجسدية والعاطفية للمرأة في طقوس الدفن في مصر، وسياسية المشاعر وأبحاث السرد الشخصي. إلى جانب ذلك، عملت في عدة مبادرات تعليمية غير هادفة للربح قبل التفرغ للبحث والكتابة. تهوى التمثيل، والحكي، والقراءة، والطهي، والرقص في وقت فراغها. 

هبة كمال ©Goethe-Institut Alexandria وصف المشروع: 


العزل وأنا والصحة النفسية:

تكتب هبة أولًا عن التحديات التي تواجهها بسبب عدم استطاعتها زيارة طبيبها النفسي بسبب العزل. "في عزلتي أجد نفسي مجبرة على مواجهة مشاعري والتعامل معها وحدي وبدون مساعدة من طبيبي. كيف يدفعنا العزل إلى الجلوس مع أنفسنا؟ لماذا نخاف هذه الخلوة وما قد تجبرنا عليه من مواجهات مع أنفسنا؟ هذا ما أتحدث عنه هنا."
 
هبة متعايشة مع مرض الاكتئاب واضطراب الشخصية الحدية، وتعتمد على جلسات أسبوعية مع طبيبها النفسي في مواجهة أفكارها والتعامل معها. "مع توقفي عن تلك الجلسات أجد عقلي يقوم بما نقوم به في الجلسات وحده، فتصبح أيامي وأحلامي عبارة عن جلسات علاج مطولة إجبارية، فالعزلة تدفع إلى السطح ما كنت أعتقد أنني قد تجاوزته."
 العزل وأنا والإنتاجية:تأجلت بعض المشاريع التي كانت تعمل عليها هبة كباحثة حرة منذ بداية العزل. تنتابها أفكار كثيرة كل يوم عن انعدام قيمتها وجدوى حياتها لارتباطها الدائم عندها بمدى إنتاجيتها في العمل.
 
"أذهب إلى النوم وأنا أظن أنني لم أفعل شيئًا في يومي على الإطلاق." في حديثها هنا تتطرق هبة إلى مفهوم الإنتاجية وكيف يتداخل مع كيفية رؤيتنا لأنفسنا: من نكون إذا توقفنا عن القيام بالعمل المدفوع الأجر الذي اعتدنا عليه؟ كيف نعرف أنفسنا كأشخاص بعيدًا عما ننتج، وبالأخص في ظروف العزل وما تمليه علينا من تغيرات في حياتنا اليومية؟

جرعة مكثفة من الذات
بقلم: هبة كمال

"انا من الناس اللي قاعدة في البيت من ساعة العاصفة"، أقولها لأصدقائي عند سؤالهم عن أحوالي ومدى تأقلمي مع الوضع الحالي. أكمل ضاحكة أنني في عزلة اختيارية منذ سبتمبر الماضي فلم يتغير الكثير في حياتي إذا. أتذكر حينها آخر لقاء لي مع طبيبي النفسي قبل العزل. تحدثت معه عن رغبتي في العودة للحياة، الخروج ومقابلة الأصدقاء وحضور عروض الأفلام والندوات. تتحمس أقرب صديقاتي للخطة ونعد بعضنا البعض بأن كل منا ستساعد الأخرى في الخروج من قوقعتها المختارة. نسخر من أنفسنا ومن الحياة حين نتذكر كيف أغلق العالم أجمع في اللحظة التي قررنا فيها الخروج إليه. يبدو أن العالم ليس جاهزا لنا بعد.
 
"جرعة مكثفة من الذات" هي سلسلة تدوينات أروي من خلالها تجربتي مع العزل الإجباري، فأنا ألتزم، مع ابنتي، بعزل كامل منذ ثلاثة أشهر، رغم صعوبته أفكر أن دائما الوقاية خير من العلاج.   أتأمل من خلال مرآة العزل رحلة تعايشي مع الاكتئاب وعلاقة الاضطراب الخارجي الذي يدور حولي باضطرابي الداخلي.  أبحث عن معني الإنتاجية والعافية وأتفاوض بحثا عن توازن يضمن الحفاظ على صحتي النفسية مع استمراري في أداء مهام عملي والاعتناء بابنتي. في العزل أكتب لأتعافى، أشارك تجاربي ومشاعري، أتعود على البوح والاستماع، أدون يومياتي وما أحلم به وأعيد كتابة كوابيسي بنهايات أسعد.  تصبح الكتابة كما وصفتها سارة أحمد "فعل متعلق بالتمسك"، بالتواصل مع النفس والآخرين[1]. أكتب عن تلك الجرعة المكثفة من الذات نتيجة العزل داخل منزلي، وحدي مع عقلي ومشاعري لأتحاور واتفاوض واتناقش مع ذاتي أكثر من أي وقت مضي. 
 
انطباعات عن الصحة النفسية:
 
لو أن اكتئابي يستطيع مراسلتي، هذا ما سوف يقول:
 

العاشرة صباحًا: لا تردي على مكالمة أمك. هذا عبء.
الثانية عشر ظهرًا: لو أنك أقوى، ما كان هذا ليحدث لكِ. أنتِ ضعيفة.
الثانية ظهرًا: لو أنك أخبرت أصدقائك عني، سيقولون إنك مجنونة.
الرابعة عصرًا: يجب أن تنهي علاقتك بحبيبك. ليس عدلًا أن يضطر للتعامل مع كلينا.
من الممكن أن يكون سعيدًا وطبيعيًا من دونك.
السادسة مساءً: اذهبي وشاهدي التليفزيون. تعلمين أنى لن أسمح لك بفعل آخر.
الثامنة مساءً: لن أتركِك أبدًا.
التاسعة مساءً: غدًا لن يكون أفضل.
 
فورتيسا لاتيفي – لو أن اكتئابي يستطيع مراسلتي– ترجمة ضي رحمي
 
أتعايش مع مرض الاكتئاب واضطراب الشخصية الحدية منذ سنوات طويلة وإن كنت قد شخصت منذ أربع سنوات فقط. أعتمد على جلسات أسبوعية مع طبيبي في مواجهة أفكاري والتعامل معها. أواظب على هذه الجلسات معظم الوقت، أتوقف بعض الأحيان لدواعي السفر وتصبح عيادة طبيبي هي أول مكان أهرع إليه عند عودتي إلى القاهرة. قد وافقت بضع المرات على تناول مضادات الاكتئاب عند احتياجي لها، تستمر بعض الأحيان لمدة ستة أشهر حتى تبدأ الأعراض الجانبية في الظهور فأقرر التوقف. كانت آخر مرة في الصيف الماضي، أخذت آخر جرعة في الخامس عشر من يوليو 2019. تستقر حالتي لبضعة أشهر فقط وحين يختفي كل آثر الدواء أقع مرة أخري في الاكتئاب، أختار حينها عزلة اختيارية في منزلي تمتد لأشهر، أعد نفسي وطبيبي أنني سأواجه ما على مواجهته بشجاعة وثقة. استمرت تلك العزلة الاختيارية لمدة ستة أشهر، واجهت نفسي خلالها بتأثير انتهاء علاقتي العاطفية التي استمرت لمدة 6 سنوات بعد شهور من حدوث الانفصال نفسه. أعترف لنفسي أيضا أن عزلتي الاختيارية ما هي إلا محاولة هروب من الذكريات والأماكن التي كانت تجمعنا سويا. أفهم فيما بعد أنني كنت فقط لا أعرف كيف أتحرك في المدينة بدونه.  أدرك تأثير الأماكن على باستمرار، فالشوارع والبيوت والمطاعم ودور السينما دائما ما تكون مرتبطة عندي بأشخاص وذكريات لا وجود مستقل لها بدونهم. في اللحظة التي أقرر فيها الخروج إلى العالم يغلق أبوابه. أجد نفسي مضطرة هذه المرة لعزلة إجبارية، تضعني في مواجهة مباشرة مع مشاعري وأحاسيسي وتعيد تعريف علاقتي بالمكان. لقد هربت شهور من المدينة بما تحمله من ذكريات فيصبح على فجأة التعامل مع علاقتي بالمدينة من داخل جدران منزلي.
 
يعتمد طبيبي على العلاج بالكلام وجلسات [2]EMDR  أو إزالة الحساسية وإعادة المعالجة بحركة العينين. يعني ذلك ببساطة أنه على تحديد شعور معين أو فكرة معينة عن نفسي، استرجاع مشاعري المرتبطة بأول ذكري لهذا الشعور وعن طريق حركة بسيطة يفعلها الطبيب بيديه أتابعها بعيني، اترك المجال لذهني في استرجاع جميع ذكريات المتعلقة بهذا الشعور وإعادة معالجتها. فإن كنت مثلا يسيطر على الإحساس الدائم بالذنب، أتذكر متي أول مره أحسست بذلك ولماذا وأدع عقلي يسترجع كل ما هو خاص بهذه الذكرى وذكريات أخرى عمقت ذلك الإحساس. ساعدتني كثيرا إعادة معالجة مشاعري وصدماتي فأثرت بالتأكيد على نظرتي لنفسي، حساسيتي المفرطة، خوفي الدائم من الهجر وإحساسي المستمر بالخواء. لكنها أيضا عملية مرهقة ومؤلمة. كثيرا ما كنت أجد نفسي في حالة استرجاع لذكريات قاسية وصدمات لأيام متتالية بعد الجلسة. في العزل، بدأ عقلي في دفعي للقيام بتلك المهمة وحدي في غياب الجلسات. تحولت معظم أحلام يقظتي ومنامي إلى جلسات EMDR  لا تنتهي .
 
لن أحاول اكتشاف طرق جانبية
تساعدني على تفادي الألم
ولن أحرم نفسي من التسكع في ثقة
وأنا أدرب أسناني على مضغ كراهية
تقفز من الداخل.
إيمان مرسال
ممر معتم يصلح لتعلم الرقص. 1995
 
يدفعنا العزل إلى الجلوس مع أنفسنا، خلوة نخاف منها ومما تجبرنا عليه من مواجهات مع أنفسنا. لكن يتيح لنا كل هذا الوقت والعزلة فرصة للنظر بداخلنا بعيدا عن كل الإلهاءات. فبرغم عزلتي الاختيارية لشهور يختلف تعاملي مع كل شيء منذ بداية العزل الإجباري.. أتذكر قول صديقة لي عن كيف تجلس وجها لوجه مع مشاعرك، تشعر بها ويختلف ذلك عن إظهارها. كيف تتيح لتلك المشاعر مساحة للظهور، تعترف بها وتدعها تأخذ وقتها وتمضي، ترحب بها أيضا وتحاول عدم الحكم عليها والتفرقة ما بين مشاعر "سلبية وإيجابية". أتعود أن أرحب يوميا بشعور الثقل وعدم الارتياح. لا أدفع أفكاري السلبية جانبا كما كنت أفعل من قبل. أعترف لنفسي فيما أفكر مهما كانت سوداويته، أتحاور مع عقلي، في هدوء في بعض الأحيان، ومن خلال دموع غزيرة وغضب في أحيان أخرى. أستيقظ يوميا بشعور عارم بالخواء، أتخيل كيف سيصبح العالم مكان أفضل بدوني، أقنع نفسي بأنني صديقة وأم وابنة سيئة قطعا. أحاول العمل على مقال أو بحث فتتوقف يدي عن الكتابة ويقنعني عقلي أنني بالتأكيد لا أستحق تلك الفرصة وأنني ماهرة في خداع كل من حولي بإمكانيات لا أملكها وبأنني شخص لا أكونه حقا. تعلمت من طبيبي كيف أتحاور مع تلك الأفكار، أتعامل معها كأنها صوت خارجي يأتي من ماضي وتجاربي ومن تاريخ التروما والصدمات ولا يمثل من أكون الآن. صوت تلك الطفلة التائهة التي تتحكم بها مشاعرها التي لم تتعلم في بدء حياتها كيف تتعامل معها.  يقول طبيبي أن الصوتين غالبا سيتواجدان باستمرار لكن ما يهم هو أن يصبح صوتي أنا أعلى. أجد ذلك صعبا جدا في العزل، فأنا الآن لا أملك رفاهية الخروج لشرب كوب من القهوة أو التمشية حتى أهدأ مثلا، ليس باستطاعتي دعوة صديقاتي على العشاء أو الخروج للرقص كما كنت أفعل بين حين وآخر. في العزل أنا وأفكاري وفقط. يصبح صوتي أعلى بعض الوقت ويتلاشى أمام الأصوات الأخرى لأيام فأتقبل ذلك بسلام حتى ولو مصطنع بحثا عن صوت أعلي من جديد.
 
أمضي ثلاثة أشهر في العزل حتى الآن في محاولة لفهم مشاعري تجاه علاقتي السابقة، علاقتي بجسمي وحياتي في المجمل. فالعزلة أيضا تدفع على السطح ما كنت أعتقد أنني تجاوزته. في العزل أدرك أنني فعلا أحب الكتابة وهذا ما أود فعله طوال حياتي. تدفعني العزلة الي إعادة التفكير في علاقتي بأبي، التصالح مع فكرة أن علاقتنا لم تكن على ما يرام وأن الأوان لرأب الصدع قد فات بوفاته منذ سنتين. استسلم لفكرة أنه على فقط الامتنان لبعض الذكريات ومحاولة إبقائها حية، ولا أملك أكثر من الوقت الآن لفعل ذلك.  أعترف أيضا باحتياجي لأمي، رغم شجارنا المتواصل عند زيارتي لها كل مرة، ثلاثة أشهر من عدم رؤيتها كانت كافية لأدرك أنني لازلت كطفلة صغيرة كل ما أحتاج إليه هو النوم على رجل أمي لتداعب خصلات شعري.
 
في العزل أيضا أنظر لنفسي في المرآة، صحيح أن أول ما أراه هي التجاعيد التي بدأت في الظهور لكني لا أنظر إليها بكره ولا أشيح نظري بعيدا عن المرآة كما أفعل عادة. علاقتي بجسدي مضطربة جدا، طالما كرهت النظر في المرآة منذ الصغر، وحين أفعل لا أرى إلا عيوبا لا تنتهي. أتذكر مقولة استشارية نفسية قمت بزيارتها منذ 6 سنوات حين عبرت لها عن إحباطي من عدم تقدمي في دروس التانجو التي بدأتها كمحاولة لفهم جسدي والتعامل معه. سألتني كيف أتوقع من جسدي أن يطيعني وأنا لا أراه؟ كنت قد بدأت دروس رقص مرة آخري وتوقفت بسبب العزل. أرقص أمام المرآة، ببدلة الرقص التي لم أرتديها منذ اشتريتها منذ سنوات. أصور نفسي وأقرر مشاهدة الفيديو بعد تردد طويل. أرى جسدي للمرة الأولي، أراه أمامي على شاشة التليفون، يتلوى ويتمايل بحرية، أشعر بالتعاطف والحب تجاهه. أعتذر له عن كل مرة كرهته فيها، كل مرة امتدت يد إليه غصبا، عن كل مرة عاقبته إما بالأكل الكثير أو التجويع أو الجري عشرات الكيلومترات.
 
 
أفكر كثيرا في الفرق بين العزلة الاختيارية والإجبارية، فبرغم عدم مغادرتي منزلي إلا نادرا لمدة تزيد عن 6 شهور، أجد وطأة العزل الإجباري أقسى بكثير. تقول سارة أحمد كيف " أننا نحتاج أحيانا للتوقف عن فعل ما حتى نشعر بالأثر الكامل لحدث ما، ندع أجسادنا تختبر الحدث"[3]. كان على العالم من حولي أن يتوقف حتى أتوقف أنا بدوري عن الجري. لطالما شبهت نفسي بشخص يجري بلا توقف، منذ انفصال والدي وتركي لمنزل العائلة وأنا في العشرين، لم أتوقف عن الجري. تستطرد سارة أحمد وتقول إنه "عند التوقف يخرج شيء ما، نحن لا نعلم ما قد يخرج حين نتوقف لندرك أثر حدث ما، إدراك الآثر قد يكون مشروعا يمتد مدى العمر". أستوعب أن جلسات علاجي ماهي إلا محاولات لفهم آثر أحداث وتروما وصدمات لم يستوعبها عقلي فيقرر إلقاء اللوم على لتفسيرها، لا ألومه. رغم كل التقدم الذي أحرزته في جلسات العلاج النفسي يفرض العزل وتتوقف الحياة كما نعرفها لأصبح في مواجهة مباشرة مع عقلي، ومشاعري وذكرياتي، لأواجه ذلك الأثر بنفسي ووحدي. في العزل أفقد احساسي بالوقت، استيقظ في السادسة كل يوم، أتخيل أن يوم طويل ينتظرني فأفاجأ بغروب الشمس بعدها بساعات خيل إلى أنها أقل بكثير.   في العزل أيضا أتعلم تقبل المجهول وما سيأتي فلا أحد يعلم بالقطع كيف سيكون شكل عالم ما بعد الكورونا، متى نستطيع لمس من نحب، متى نستطيع البكاء في أحضانهم ومتى نتشارك وجبة شهية أو متي تتاح لنا فرصة الهروب إلى البحر أو الصحراء. تبقي خططي لاستكمال دراسة الدكتوراه في سبتمبر المقبل معلقة ومبهمة. أحاول استيعاب فكرة المجهول، كيف أنه لا يمكن التخطيط لأي شيء الآن، على فقط الانتظار فأتعود أن أجيده.  ما أعلمه بالتأكيد أنه حين ينتهي هذا كله أريد لصوتي أن يكون أعلى من كل تلك الأصوات في عقلي.
 
مفاوضات عن الإنتاجية والعافية:
 
في بداية العزل ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي رسائل محفزة عن الإنتاجية الفردية في تلك الفترة، تقول لنا كيف نمتلك الوقت الكافي لفعل كل ما كنا نحلم به، فالوقت مثالي لتعلم لغة جديدة، مشاهدة الأفلام وقراءة الكتب التي لم تتح لنا الظروف العادية الاستمتاع بها أو حتى الحصول على هذا الخصر النحيف وفقدان الكيلوجرامات والسنتيمترات، ومع تكنولوجيا العصر باستطاعة الكثيرين العمل من المنزل أيضا. تحثنا تلك المنشورات على رؤية الموقف الحالي والتعامل معه بطرق أكثر إيجابيه، ليس عليك تمضية ساعات في زحام شوارع القاهرة وبدت فكرة حضور الاجتماعات اونلاين بنص بيجاما نص بدلة مغرية جدا.  ورسائل أخرى تنتقد ذلك وتدعو الجميع ليصبحوا أكثر لطفا مع أنفسهم وخاصة من يعانون نفسيا، فتلك الظروف من عزل وحجر صحي وقلق مستمر من المستقبل ليست مثالية للإنتاج وتحثهم على الاعتناء بذواتهم وعافيتهم أولا وقبل أي شيء. أجدني في تفاوض مستمر مع نفسي عن معني الإنتاجية والعافية[4].
 
تركت منزل أبي فور تخرجي من الجامعة والتحاقي بأول فرصة عمل. أدى ذلك لانقطاع العلاقات بيني وبينه لمدة سنين أصبح على خلالها الاعتماد على نفسي تماما في كل شيء. استمررت في العمل وتدرجت في السلم الوظيفي في مكان عملي لمنصب جيد جدا. كان باستطاعتي العمل من المنزل، أسافر مرتين أو أكثر سنويا للقاءات عمل وأجري معقول جدا أتاح لي ولابنتي مستوى معيشي مريح نسبيا. دائما ما كان عملي هو المصدر الأساسي لإحساسي بذاتي وقيمتي وكياني. سافرت منذ سنتين لدراسة الماجستير بدولة أوروبية وعدت إلى القاهرة بنوبة شديدة من الاكتئاب قررت بعدها أنني لا أبغي العودة للعمل بدوام كامل فأنا أريد وقت أكثر لأقضيه مع ابنتي التي أعتني بها وحدي نظرا لظروف طلاقي وإقامة والدها بالخارج. لم أعد أقوى أيضا على ضغط العمل لساعات طويلة وأردت ممارسة الحكي والكتابة. أخذت هذا القرار مدركة أنه على التضحية ببعض امتيازاتي وأسلوب معيشتي.
 
تأجلت بعض المشاريع التي كنت أعمل عليها كباحثة حرة منذ بداية العزل. ارتباط قيمتي الشخصية بعملي ومقدار ما أجنيه من مال وضعني في موقف صعب. تنتابني أفكار كثيرة كل يوم عن انعدام قيمتي وجدوى حياتي لارتباطهما الدائم عندي بمدى إنتاجيتي في عملي. فكيف أفصل قيمتي كشخص وتعريفي لذاتي عما أنتجه وعن أي عمل مدفوع الأجر أقوم به. أذهب للنوم وأنا أظن أنني لم أفعل شيئا في يومي على الإطلاق. أنسي أنني رتبت المنزل بالكامل، ذاكرت مع ابنتي ولعبت معها وقمت بطهي الطعام لنا ولأخي المقيم معنا الآن ولم أبكي ولم أنهار ولم تزورني نوبات القلق والرهاب المعتادة.
 
عملي المنزلي   domestic work هو أيضا إنتاج، فأذكر نفسي أن العمل المنزلي يتم التقليل منه قصدًا ولا يرى بعين الاقتصاديين رغم دوره في عملية الانتاج الرأسمالية، لأنه مرتبط تاريخيا واجتماعيا وثقافيا بالنساء وباستغلالهن دون أجر. أعود لقراءة ما كتبته أ نيا مولينبيلت[5] أن "جزءاً عظيماً من حياة المرأة يتحدد من خلال كونها الشخص الذي يقوم بالعمل غير المأجور، أي العمل الذي لا نسميه عملاً، بل حباً". أذكر نفسي أيضا أنني إنسان ذو قيمة حتى وإن لم أقم بهذا "العمل المنزلي". في النهاية العالم كله توقف. ورغم أن نكات نهاية العالم وظهور الديناصورات في آخر 2020 تضحكني، إلا أن الاعتراف بأن ما نعيشه مخيف ومقلق إلى حد الشلل لا مفر منه. أتصالح مع فكرة أنني لن أقوم بالتنظيف لأيام وقد أطلب من ابنتي أيضا يوما كاملا أمضيه بمفردي في غرفتي أمام شاشة اللاب توب أو مع كتاب وتتفهم هي ذلك. أنا لست فقط ما أنتج، أنا أيضا ما أؤمن به من أفكار وما أحسه من مشاعر تجاه نفسي والآخرين وما أقدمه من حب ودعم لنفسي ولمن حولي.
 
بعد طوفان الرسائل المحفزة على الإنتاج، ظهر في المقابل رسائل أخرى توضح أنه من المتوقع جدا أن يؤثر العزل على صحتنا النفسية وبالتالي قدرتنا على العمل، وتحثنا على الاهتمام بعافيتنا. أستعيد أولي ذكرياتي مع فعل الاعتناء بالذات والعافية. أتذكر كيف كانت أمي مثال للست الشقيانه، تعمل بدوام كامل في القاهرة، تعتني بي وبأخي بمساعدة أبي في أحيان نادرة، ليس لها أصدقاء في القاهرة حيث تقطن بعد زواجها من أبي وتركها مدينة المنصورة حيث ولدت وتربت. تتمحور حياتها حول عائلتها وعملها كأن ليس لها وجودا مستقلا عنهم. كنت اري تغير ذلك قليلا عند زيارة جدتي وخالتي في المنصورة في الأجازات وزن خالتي المتواصل انها "لازم تاخد بالها من نفسها اكتر من كده". لازال في ذاكرتي المشوشة مشهد أمي وخالتي وجدتي على الكنبة في مطبخ جدتي، يطرد الأطفال للعب على السلم ونسمع ضحكاتهن من وراء الباب. تناديني أمي فاجري صاعدة السلالم فمعني سماع اسمي هو حصولي على مصاصة صغيرة مصنوعة من السكر والماء والليمون لازلت أتذكر طعمها على لساني حتى الآن. كنت احصل عليها فقط في تلك الأيام حين يطرد الصغار وتبقي نساء العائلة ليعتنوا بأنفسهن. تحب أمي المشي أيضا فكنا نستمتع بليالي الصيف في المنصورة الأقل حرا من ليالي القاهرة، فنمشي على كورنيش المنصورة بمحاذاة النيل، نتوقف لشرب السفن اب من كازينو النيل الذي لازلت اتذكر أضواءه الخضراء، نمشي ذهابا وإيابا في "السكة الجديدة" أو "سوق الخواجات" بحثا عن شيء نشتريه نحمله معنا ليذكرنا بتلك الأيام حتى يحين موعد زيارتنا القادمة. كانت خالتي دائما ما كانت تودع أمي قائلة " الدموية ردت في وشك وبانت عليكي العافية" ويختفي ذلك كله لحظة وصولنا للقاهرة وعودتها لدوامة الحياة اليومية المعتادة.
 
منذ لحظة استقلالي وتركي لمنزل العائلة والسكن وحدي احمل معي نصيحة أمي "خدي بالك من نفسك وخلي دايما وقت لنفسك"، كما تضطرني معايشتي مع الاكتئاب منذ سنوات للاهتمام بموضوع العافية كجزء أساسي من العلاج النفسي. عندي قائمة من الأنشطة التي أقوم بها ومن ضمنها ممارسة الرياضة واليوجا يوميا، التأمل أحيانا، الجري حينما أملك قدرة مواجهة الشارع المصري الغير مرحب بوجود النساء، الهروب للبحر والشمس، استمتع أيضا بالرقص والقراءة ومشاهدة الأفلام وشراء الزيوت الطبيعية المختلفة وابتكار وصفات متعددة للاعتناء بشعري وبشرتي. أدرك أيضا أن معظمها من امتيازات الطبقة الاجتماعية التي انتمى إليها الآن. بجانب القدرة المادية، الوقت والطاقة التي أبذلها بحثا عن العافية هما أيضا رفاهية لا أملكها أ طوال الوقت. يصبح منتهي أملي في أكثر أيامي انشغالا بضع دقائق أقضيها وحدي في سريري بعد نوم ابنتي قبل أن يغلبني النوم أيضا. قد يصبح فعل الاستحمام على بساطته أداة من أدوات العناية بالذات والعافية.، يذكرني ذلك بأمي أيضا، في اشد أيام صيف القاهرة حرا، كانت أقصى امانيها أن تضع رأسها بشعرها القصير تحت الماء وتجلس في هدوء "عشر دقايق بس" كما كانت ترجونا.
 
بعد مرور أول أسبوع أقع فريسة، رغم ما أدعيه من وعي، لكل الرسائل المشجعة على استغلال الوقت فبدلا من ممارسة الرياضة لمدة نصف ساعة واليوجا لنصف ساعة أخرى أخصص ساعة ونصف او ساعتين، ألوم نفسي إن نسيت ماسك الشعر مرتين في الأسبوع واحسب الدقائق يوميا حتى أستطيع القراءة والرقص والتمرين والطبخ كل يوم. أتخيل أنني أفعل كل ما يمكن للاعتناء بنفسي وعافيتي، ومع ذلك أحلم بكوابيس كل يوم، يتملك مني الأرق والقلق والتفكير المستمر. يتبين لي حينها كيف حولت العافية إلى شكل آخر من أشكال الإنتاجية، يحسب بكم عدد الدقائق والمرات التي مارست فيها اليوجا أو وضعت زيت بذور العنب على وجهي وبعدد السنتيمترات التي انتظر فقدانها من خصري.
 
تبدأ العافية إذا من الداخل، حين أعترف أنني أقسو على نفسي قبل أن يقسو على أحد، حين أتوقع من نفسي ما لا طاقة لها به، وتبدأ العافية بالرحمة، اللطف، التفهم والتقبل، تقبل أننا في لحظة استثنائية وإنه من الجنون والقسوة توقع إنجازات في وقت يخيم عليه الخوف من المجهول. أحدث نفسي بأنه من العبث أن أتوقع الحصول على عمل جديد أو تعلم لغة جديدة أو مساعدة ابنتي على الحصول على درجات أعلى في مدرستها. أريد فقط أن نتذكر تلك الفترة بخفة، بساعات نقضيها في الحديث عن أي وكل شيء، بالأفلام التي شاهدناها ونحن نأكل الفشار وننام أمام التلفزيون، وساعات قضيناها على أرض مغطاة بالمكعبات نبني مشاهد ونتخيل قصص منعنا العزل من تحقيقها. أريد أن أتذكر كل تلك الأوقات التي قضيتها مع ابنتي نتحدث عما نشعر به تجاه ما يحدث بحميمية وأريحية. كل تلك المرات التي لم أحاول إخفاء دموعي وشجعها ذلك على البوح عن مخاوفها وقلقها.
 
تمر أيامنا بين البطء والخوف والحميمية، لأتابع كل يوم مفاوضاتي مع ذاتي حول معنى العمل والانتاجية والعافية، عافيتي أنا وعافية ابنتي، وما "أعمله" لصونهما. أتعلم ما أسمته سارة أحمد "استراتيجيات النجاة" وأذكر نفسي دائما بأنه كما كتبت "ثمة حد أقصي لما يمكنك أن تواجهيه لأن ثمة حد أقصي لما يمكنك أن تتحمليه".
 

[1] سارة أحمد، الشكوى والنجاة، 2020. ترجمة سارة مبارك وإبراهيم الشريف
[2] Eye Movement desensitization and reprocessing Therapy
[3] سارة أحمد، الشكوى والنجاة، 2020. ترجمة سارة مبارك وإبراهيم الشريف
[4] مصطلح العافية هنا هو ترجمة لكلمة   Wellbeing  
كما جاءت في كتاب يارا سلام "حتى أقوي المقاتلات"

http://ohrh.law.ox.ac.uk/wordpress/wp-content/uploads/2020/02/حتى-أقوى-المقاتلات-1.pdf
 
[5] ما-معنى-أن-يكون-الشخصيّ-سياسة؟
 https://www.aljumhuriya.net/ar/content/